السبت، 4 أغسطس 2012

الشيعة والسنّة: الثنائية الزائفة | الأخبار



الشيعة والسنّة: الثنائية الزائفة | الأخبار


الشيعة والسنّة: الثنائية الزائفة 



سيف دعنا


خلال الاحتفال بذكرى حرب تموز مساء 18 تموز الماضي (أرشيف ــ مروان بوحيدر)

«نحن مع تركيا السنيّة اذا كانت تريد أن تدافع عن فلسطين وعن غزة وعن المسجد الأقصى قبل أن نكون مع ايران الشيعية، بل أكثر من ذلك، نحن مع فنزويلا الشيوعية التي تقف الى جانب فلسطين ولبنان»
السيد حسن نصر الله (يوم الشهيد 11 شباط 2009)

يذكر محمود اسماعيل في «الحركات السرية في الإسلام» أنّه خلال الفترة الأموية تشكلت أكثر من عشرين فرقة متناحرة من الخوارج، وكل منها يكفر من عداه، كالأزارقة والنجدات ذوي النزعات المتطرفة والأباضية والصفرية الأكثر اعتدالاً (ص: 22). هذا عدا ذكره لفرق اخرى كالقرامطة، الذين نالهم من التشويه والافتراء، ربما، ما لم ينل غيرهم، والمُرجئة (بضم الميم)، وهو اسم أطلقه على هذه الفرقة نافع بن الأزرق، أكثر قادة الخوارج تطرفاً ويسارية بمقاييس أيامنا، لترددهم وتريثهم (إرجائهم) في اتخاذ الموقف حتى تتبين لهم نتائج الصراع وميلان كفة الصراع ــ سماهم الزبيدي في «تاج العروس» أيضاً «بالحشوية»، وهم من يكتفون بظاهر النصوص ويرددون كلاماً لا يفهمونه ــ فلقد كانوا أتْباع كل من غَلَب، وحتى انقسموا أحياناً حسب قراءتهم الانتهازية للواقع السياسي (كانوا من أتباع الامويين في البداية لكنّهم لم يعلنوا تأييدهم لهم لأنّ الموازين كانت تميل لصالح علي حينها).

ويذكر فهمي جدعان في «المحنة» انّه أثناء خلافة المأمون وُجِد، على الأقل، تياران سياسيان في قلب الاعتزال، «التيار المثالي الاحتجاجي، والتيار الواقعي العملي» (ص:322)، والفروق بينها تصل حد التناقض أحياناً، بين من يرفض منهم حتى فكرة الدولة ويقترب كثيراً من أن يكونوا كفوضويي هذه الأيام في نظرتهم للدولة (كبعض المعتزلة الصوفية) وبين من لا يرى شراً في العمل لدى السلطة (كبعض أتباع التيار الواقعي العملي) الذين وجد بعضهم تبريراً للعمل عند المأمون ــ وهذا طبعا يؤكد خطأ الصورة الشائعة عن سيطرة المعتزلة، أو تأثيرهم الكبير، على الحكم في عهود المأمون والمعتصم والواثق والتي يبيّن جدعان بمهارة عدم صحتها قولاً وفعلاً.
لكن ربما يكون كتاب الشهرستاني «الملل والنحل» هو الأكثر توصيفاً وسرداً لتعقيد الحالة الدينية والفكرية في التاريخ العربي ــ الإسلامي وازدحامها الشديد بالعديد من الحركات والتيارات والفرق والمذاهب والتوجهات، وأيضاً الملل غير الإسلامية (كالمسيحية واليهودية وفرقهما) وأهل الأهواء (أصحاب الآراء كالفلاسفة، والدهرية، والصابئة)، والنِحَل أيضاً (من الدعاوي والديانات).

في تعقيد المشهد الإسلامي

الصورة التي يرسمها المؤرخون للمشهد الإسلامي لا تتضمن فقط حقيقة التنوع والاختلاف والازدحام الشديد للتيارات والفرق والآراء ونقض التبسيط والسطحية، بل وأيضاً التأكيد أنّ طابعها وجذورها كانت سياسية واجتماعية بامتياز، لا فقهية. أكثر من ذلك، يمكن أن نرى بوضوح في بعض الحالات كيف كانت (ولا تزال) الحركات السياسة والاجتماعية تستولد فقهها، لا العكس كما قد يظن البعض، ويقع في هذا السياق، ويفسره، مثلاً، ما عرف «بفقه الأولويات» الذي قَدَّمَ «وحدة الامة» على شرعية النظام في انحيازه لمعاوية في أعقاب الفتنة الكبرى لاحقاً ــ أي لو انتصر معسكر علي لانحازوا اليه أيضاً (مثلاً ،ابن تيمية، منهاج السنّة، ج 4). وهذا التاريخ، او الرواية للتاريخ، تؤكده القاعدة السوسيولوجية التي تعتبر أنّ التحوّلات الثقافية الكبرى تاريخياً تُنتج دوماً نظماً ايمانية (وفكرية) جديدة أو تعيد جذرياً إنتاج النظم القائمة، وهو ما يفسر التطور التاريخي للأديان والأفكار (أنظر مثلاً، محمد بامية: الأصل الاجتماعي للاسلام).
والقراءة عن المعتزلة تحديداً (وبعض فرق الخوارج أيضاً) وعن مناظراتهم وأدائهم الفذ توفر «نموذجاً مثالياً» لجدل الواقع والفكر (توسع الدولة الهائل في أعقاب وفاة الرسول وما ترتب عليه من تبعات في كل المجالات تقريباً، والتطور الفكري المرافق، وتفاعلهما). كانت مناظراتهم وأفكارهم، كما أشار جدعان في «المحنة،» تمثل «روحاً جديدة لمعطيات ثقافية جديدة،» وأيضاً، وهو المهم والذي يشير الى فكرة «التقهقر» عند الجاحظ التي سأذكرها لاحقاً أنّ: «الاعتزال لم يكن في حقيقته إلا استجابة عملية ارتكاسية لأوضاع اجتماعية ــ ثقافية ــ تاريخية محددة» (ص:20-21). هناك، أيضاً، في هذه الصورة التاريخية نقض للتشويه الذي تتضمنه الصورة الراهنة السائدة لدى بعض الحركات والقوى الإسلامية الراهنة لهذه الفرق والتيارات وتاريخهم (المعتزلة والقرامطة مثلاً) لدرجة استخدام أسماء هذه الحركات كتوصيفات سلبية وشتيمة أحياناً. كذلك، إنّ كل هذا التاريخ، والتأريخ، يتنافى كلياً مع الصورة السائدة (شعبياً أحياناً، وفي بعض الحلقات الاكاديمية أيضاً) عن الثنائية القطبية للصراع في التاريخ العربي ــ الإسلامي (بين السنة والشيعة) التي هي في جانب منها ليست أكثر من إعادة تركيب للتاريخ وفق تصور راهن خاطئ لصراع سياسي معاصر (تصور خاطئ لأنّه سطحي وتبسيطي ويتبع ظاهرية الصراع المذهبية، لا جوهره وجذوره السياسية والاجتماعية، فيخلط بين القومي والمذهبي والسياسي والديني ــ وأيضاً يتجاهل وجود الكثير، وربما الغالبية، من الآخرين).
الأهم، هذا التاريخ يؤكد: أولاً، أنّه ليس للطوائف والمذاهب (وحتى الفرق) ماهية ثابتة غير متغيّرة في الزمان والمكان، بل على العكس، هي مرنة ومتغيرة وفق حركة واقعها المادي وتأثيرات الزمان والمكان ولا تحتاج إلى أن تكون ابن خلدون لترى ذلك في التاريخ العربي. وثانياً، لأن «النموذج المثالي» المتخيل والقطعي للمذهب هو في حقيقته تخيل، لا واقع، ولا يمكن ان يكون في واقعه بذات الطريقة الموجودة على الورق أو المتخيلة في الذهن. وثالثاً، لأن الفروق بين المذاهب (السنة والشيعة مثلاً) أقل بكثير من الفروق داخل المذاهب.
ربما يكون التعقيد والتنوع الشديد للمشهد الإسلامي الراهن وازدحامه بالعديد من القوى والحركات السياسية والدينية هو أحد الأدلة أيضاً على إشكاليات منهجية تصنيف القوى الأسلامية أو فقر المنهج التصنيفي السائد (الطائفي والمذهبي والثنائي ــ القطبية في أغلب الأحيان). احدى الإضافات الأخيرة لهذا المشهد المعقد ما شهدته الخريطة السلفية من تحول مع صعود «السلفية السياسية»، كما يسميها البعض، والتي تطورت عقب الثورة المصرية لتضاف الى أنواع السلفية الإسلامية المتعددة (أنظر، مثلاً، أشرف الشريف، تحوّلات السلفيين، جدلية). والسلفية، كما تدل الفكرة السالفة على تحولها وحقيقة أنواعها المتعددة، هي في الحقيقة تصور راهن ومعاصر للإسلام ولتاريخه بامتياز، بغض النظر عن التسمية وما توحيه للسامع أو القارئ، لأنّ غير ذلك هو بكل بساطة تجاهل وإنكار لكل التحوّلات التاريخية منذ القرن السابع من الاقتصاد الى السياسة والثقافة، ومن الاجتماع الى اللغة والفكر (تحتاج إلى أن تكون سوبرمان يعيش في الفراغ منذ القرن السابع حتى تكون سلفياً وفق ما توحيه التسمية). لكن المهم ليس هذه السطحية والتبسيطية وليس اعتبارها مجرد خلل معرفي أو فشل في قراءة التاريخ، بل إمكانية ان تكون إعادة تدويرها في سياق الاشتباك السياسي (الذي يصر البعض على مذهبته) قاتلة، فالصراعات الأهلية تستند في شق منها الى تخيل مُشَوّهْ، أو وعي زائف، للتناقضات الاجتماعية والسياسية.
لكن هناك من يعيد إنتاج البضاعة الغربية والأكاديمية الفاسدة، ويُسَوّق أنّ الشيعة والسنة والمسيحيين في بلادنا هم في حقيقة الأمر تيارات سياسية، لا مكونات اجتماعية، تتشكل وتتحدد مواقف أعضائها السياسية تبعاً لاصولهم المذهبية المُعْطى بالولادة عادة (رغم إمكانية تغييرها قليلة الحدوث) وبغض النظر عن أي موقع طبقي، أو حالة اجتماعية، أو جنس، أو عمر، أو مكان سكن كما قد يفترض أي مبتدئ في العلوم السياسية والاجتماعية، وكأنّ للمذاهب طبيعة جوهرانية وماهية ثابتة عابرة للتاريخ. لكن «الناس بشكل رئيسي» كما يقول هادي العلوي، محقاً، في نقده لحنا بطاطو «لا يعتنقون المذهب لاغراض سياسية أو فئوية بل يبتغون بمذهبهم الشفاعة ورضوان من الله كل بطريقته». المشكلة والخطر ليست في المذاهب كتصوّرات دينية إذن، بل في تسييسها الراهن واستخدامها أداة لقراءة وتفسير الصراعات السياسية والاجتماعية. وحسب هذا المنطق اللاتاريخي يَغيب ويُغَيَّب العرب في الوطن العربي، فهم سنة وشيعة ومسيحيين، كما يقال لنا، لم يدخلوا التاريخ ولا زالوا عاجزين عن التعبير عن صراعاتهم السياسية والاجتماعية بأدوات وأفكار العصر الحديث. وتَغيب وتُغيب أيضاً السياسة والأوطان، والنتيجة هي خطاب الخروج من التاريخ الذي يعممه سياسيو الطوائف والمذاهب.

في المنطق الوهابي

وفي ظل الاشتباك السياسي ــ الاجتماعي القائم، هناك أيضاً من يُسَوّق أحياناً منطقاً قريباً مما يسمى في سوسيولوجيا الأقليات «المنطق الأبيض»، كما في «أيديولوجيا البياض»، حيث لا يَرى «الأبيض» نفسه مكوناً عرقياً أو إثنياً آخر كغيره، بل كحالة طبيعية (محايدة عرقياً وإثنياً) تمثل «المركزية» المجتمعية (والإنسانية) ويتم على أساسها قياس انحراف الآخرين عن «الطبيعي» أو «الصحيح» بمقدار اختلافهم عنه (الأقليات العرقية والإثنية شاذة، ومجرمة، وغير طبيعية بمقدار اختلافها عن الرجل الأبيض الذي هو مركز الكون ومعيار الأخلاق والإنسانية وكل شيء وفق هذا المنطق).
في حالة المشهد الإسلامي المعقد، يمكن الزعم أن هناك منطقاً مشابهاً يمكن رؤية معالمه في الخطاب الوهابي الراهن (أو منطق الوهابيين الجدد) المشابه في بنيته «للمنطق الأبيض» في نظرته الى نفسه والى المسلمين الآخرين. فهو لا يرى في نفسه مجرد تصور آخر للإسلام، أو حتى للسنة، في مشهد شديد التعقيد والتنوع بالإسلاميين والمسلمين والسنة. بل يرى أنّه هو الإسلام (وهو السنة) ذاته الذي لا يجوز الخروج عليه أو الاختلاف معه في أقل التفاصيل، وعليه يشيطن كل من يحيد عنه ويُنْكر عليه «حقه» في التعبير عن نفسه كمسلم أو كسنة. وهذا المنطق يبدو جليا حين يُقَدّم «الفقيه» السني والحزب السني، وبعض ما هو سني كذلك، وفق النظرة الوهابية، كفقيه وحزب إسلامي (فالمسلم «النقي» أو «المثالي» الذي يخترعه ويتخيله هذا المنطق هو مرادف للوهابي) بسبب الهيمنة على الدلالات الدينية بتأثير من الدور الذي لعبه تاريخياً «أهل القلم والكتاب» (المؤرخون الرسميون الموالون للسلطة من المشتغلين بالدواوين، كما وصفهم محمود إسماعيل) ويلعبه اليوم المال النفطي عبر شراء الإعلام والكتبة. فيما يُقَدّم الآخر حتى في الإعلام مذهبياً أساساً (كشيعي أو غير ذلك)، والحزب (حزب الله مثلاً) كشيعي لِقَضْم وتضييق مجاله الحيوي الى أبعد حد ــ في أغلب الأحوال ليس لأنّه شيعي بالضرورة، بل لأنّه مقاوم ومختلف سياسياً مع برامج جماعة «عرب من أجل إسرائيل». ومن يراقب الإعلام العربي وتقاريره يجد أنّ بعض الأخبار المتعلقة بحزب الله مثلاً ترد في جرائد تَدَّعي «القومية» تحت مسمى «جماعة حزب الله الشيعية» (ربما يكون هذا فعلاً غير مقصود ومجرد نقل حرفي لتقارير إعلامية كما أخبرني أحد الإعلاميين بعد احتجاج على هذه الصيغة الفجة، لكنّها في النهاية تسويق للبضاعة الفاسدة ذاتها التي تشكل بعضاً من مادة الحرب الإعلامية).
ويتم اللجوء الى الخيار المتطرف بالتكفير، أحياناً، وهو نتيجة منطقية لبنية هذا الخطاب، حين تصبح هذه الرؤية في مأزق كما حصل أثناء حرب تموز وازدياد شعبية حزب الله وكسره لحدود المذهب والطائفة والدين وبالتالي دخول هذا «المنطق» في أزمة (مثلاً، فتوى سفر الحوالي في أوج حرب تموز، وفتوى اخرى سابقة اصدرها عبد الله جبرين واستنكرهما ورفضهما رجال دين من كل قطر عربي تقريباً). والتكفير والإخراج من الدين في هذه الحالات هو عجز وتعبير عن مأزق اصطدام الخيالات والأساطير بمعطيات الواقع وحقائقه ــ حينها يتم اللجوء الى الحشو أيضاً، كما في مفهوم الحشوية في التراث الإسلامي. لكن هذا المنطق، ولأنّه سياسي في الجوهر، ليس حكراً على بعض رجال الدين، بل يتبناه بعض «المثقفين» الليبراليين الذين يصفون أنفسهم بـ«المؤرخين» في بعض الجرائد والمواقع «العربية»، وهو ما يعكس التصحر والانحطاط الفكري والسياسي لديهم. فبعض ما يمكن قراءته لبعضهم لا يخلو من ترديد التوصيفات المذهبية في كل سطر واعتمادها أساساً في التحليل السياسي للوصول الى تبرير موقف سياسي منحاز الى أنظمة متخلفة تقتات على نشر الفتنة المذهبية والطائفية. يغدو حزب الله حزباً شيعياً أولاً وأخيراً (وشيعي وفق هذا المنطق المنحط لا تعني بالضرورة تصوراً آخر للإسلام مساوياً لغيره، فهذا قد يكون مقبولاً للشيعة وغيرهم، ربما، بقدر ما تعني أنحراف عن من يعتبر رؤيته هي الأصل والحق)، وليس حركة مقاومة أساساً والاولى والوحيدة التي أنجزت انتصارين كبيرين على عدو الامة الأول، وليس حتى كحزب إسلامي على الأقل. فيما حركات اخرى (برغم استعداد بعض قادتها للإبقاء على اتفاقية كامب ديفيد مع عدو الامة الذي هزمه حزب الله وبرغم حديث آخرين منهم للإذاعة الصهيونية) هي حركة إسلامية نادراً ما توصف مذهبياً.
لكن التنوع والازدحام في المشهد الإسلامي الراهن، وكسابقه في التاريخ، مرده الأساسي سياسي ــ اجتماعي (يكفي قراءة الشهرستاني للتأكد من ذلك سابقاً. يمكن، أيضا، قراءة مقدمة طه حسين في «الفتنة الكبرى» ــ التي تفجرت بفعل تحولات تاريخية نتجت من التوسع الهائل للدولة وما ترتب على ذلك من تحوّلات اقتصادية وثقافية وسياسية من ضمن أشياء اخرى كثيرة أنتجت فقهها لتبرير وجودها لاحقاً ــ وقسم المنهج من «في الشعر الجاهلي»، أو أحمد عباس صالح «اليمين واليسار في الإسلام»، وغيرهم الكثير). وبرغم أنّ أغلب الحركات المعارضة في التاريخ الإسلامي أخذت طابعاً فقهياً في الشكل، كان الجوهر دائماً اجتماعياً وسياسياً بامتياز، وأحياناً اخرى كان التعبير أيضاً، وليس الشكل فقط، اجتماعياً واضحاً كما تشير الكثير من الدراسات على الحركات الإسلامية، كما في حالة بعض فرق الخوارج مثلاً وكما في ثورة الزنج (انظر مثلاً، فيصل السامر: «ثورة الزنج»).
ولأن هدف التصنيف النهائي سياسي ــ اجتماعي أساساً، ولأن السياسة والاجتماع، لا الفقه، هي في خلفية الاهتمام بالإسلام، فإنّ تصنيف الإمام الخميني في «الحكومة الإسلامية» يبدو أكثر منطقية وحياداً مذهبياً، ومناسباً أكثر، تاريخياً من غيره كون الاهتمام (العالمي الشعبي والأكاديمي) بالإسلام سياسي أساساً، لا فقهي. فهو يُعَرِّف الإسلام على أنّه «دين أولئك الذين يرغبون بالحرية والاستقلال. إنه مدرسة اولئك الذين يحاربون الإمبريالية» (ص: 8، ترجمتي عن النسخة الإنكليزية. النسخة العربية مماثلة إلا في كلمة «الكفار» التي يمكن أن يُستدل من السياق أنها تعني الغرب الاستعماري، بدل كلمة الإمبريالية المعتمدة في النسخة الإنكليزية). وعلى هذا الأساس يميّز الإمام الخميني بين إسلامين: إسلام الحرية والاستقلال ومحاربة الإمبريالية، وإسلام آخر يُنَظِّر له من سماهم «خَدَم الغرب» (المصدر السابق). هذا التصنيف يمكن أن يُسَهّل فهم تعقيد المشهد ويسهل فهم الحراك الإسلامي بدون تبسيطيه مبتذلة وسطحية، لأنّ الهدف سياسي أصلاً. الأهم، أنّ هذا التصنيف يمكنه أن يتجاوز الثنائية الزائفة والقاتلة التي تهدد أوطان العرب والمسلمين.

مقابلة وإسلام

ربما تكون إجابة السيد نصر الله عن السؤال المتعلق بفلسطين هي أكثر ما يلفت الانتباه في مقابلته مع جوليان اسانج («روسيا اليوم» في 17 نيسان)، فهي إحدى الإجابات التي تضيف تحدياً جديداً إلى محاولة فهم الإسلام سوسيولوجياً. فالإجابة لا تتفق، بل وتتناقض، مع تصور الغرب للإسلام وتصوره أيضا لرؤية الإسلاميين لقضية فلسطين. لكن ربما يكون الأكثر أهمية في المقابلة، وما يهم هنا، وما يفسر إجابة سؤال فلسطين أيضاً، هو تقديم السيد نصر الله للمشاهد العربي والغربي إسلاماً آخر غير ذلك الذي تخترعه وتسوقه الآلة الإعلامية والأكاديمية الغربية، وغير ذلك الإسلام الثنائي القطبية الشائع والقاتل الذي يَسهل تصنيفه مذهبياً (إما سني أو شيعي) والذي يريح الكسالى من دارسي الإسلام في الأكاديميات الغربية، وأيضاً غير ذلك الإسلام الليبرالي الساذج والاعتذاري الذي يخترعه بعض الأكاديميين المسلمين والعرب في الغرب في محاولتهم التشبه بالغربي (مبادرة السيد نصر الله الأخيرة حول بناء الدولة في لبنان تحتاج إلى دراسة عميقة خاصة بذاتها ولذاتها، وستشكل تحدياً جديداً للنمطية التي يعالج بها الفكر الإسلامي، هذا عدا أبعادها السياسية).
وبرغم أن كل سؤال وكل جواب للسيد كانت فرصة للعالم ليتعرف إلى فكرة جديدة تتحدى منطق تصنيف السنة والشيعة وحتى المسلمين والمسيحيين، فإن السيد نصر الله قدم تصورا للإسلام هو في الحقيقة أقرب ما يكون الى تصور الغالبية من المسلمين والعرب، سنة كانوا أو شيعة أو غير ذلك، وهو امتداد لتصور إسلامي ثوري يتعذر تصنيفه المذهبي الواضح و«المثالي» والقطعي، ويشكل بالتالي تحديا للعقول المركبة مذهبيا وطائفيا. وهو تصور يمكن اعتباره وريثا لتقليد وتراث تطور، بشكل ملحوظ، في القرن التاسع عشر مع جمال الدين الأفغاني كما سأوضح لاحقا. مشكلة المنطق الإسلامي هذا، الذي يمتد من الافغاني الى محمد عبده الى السيد نصر الله مرورا بعلي شريعتي ومالك بن نبي والإمام الخميني ليس أنه شيعي أو سني، أو أنه حتى هجين يحمل ويعكس تعقيد الحالة الإسلامية، بل أنه يشكل منطقا إسلاميا مضادا للمنطق المذهبي والطائفي.
في المقابلة، اختار السيد نصر الله مواجهة استفزاز الاصولية العلمانية المتضمنة في السؤال الأخير بمداخلة عبقرية، لم يكن أهم ما فيها: «نحن لا نقاتل من أجل فرض عقيدة دينية على أحد»، بل أيضاً استحضار السيد للفكرة الإسلامية الثورية عن الإنسان و«الفطرة الإنسانية» الرافضة للظلم وإعطائها بعداًعقلانياً، وهذا كان فذاً بكل المقاييس: «الإنسان بفطرته وعقله يقول: الصدق أمر جيد، الكذب أمر قبيح. العدل امر جيد، الظلم أمر قبيح. مساعدة الفقراء والمظلومين أمر حسن، أما الاعتداء على الآخرين وسفك دمائهم فأمر قبيح. مسألة مقاومة السيطرة الأميركية أو غير الأميركية، أو مقاومة أي احتلال علينا أو على شعبنا وأهلنا هي مسألة أخلاقية وفطرية وإنسانية».
كان اسانج، ربما، سيتردد في طرح السؤال لو انتبه أثناء تحضيره للحلقة الى خطاب السيد نصر الله في أعقاب «عملية الرضوان» في 16 تموز 2008 وعرضه العميق لمفهوم المقاومة. فهي ممارسة مثلت باستمرار سياسة أصيلة ورافضة للهيمنة والاحتلال في المنطقة منذ بداية الهجمة الاستعمارية (وتصاعدت منذ احتلال فلسطين في 1948) بغض النظر عن الاختلاف الايديولوجي بين المقاومين السابقين واللاحقين. هذه الاستمرارية هي ما دفع السيد نصر الله في كلمة عملية الرضوان لوصف المقاومة بـ«الهوية الحقيقية الأصيلة، الراسخة، الثابتة، لمنطقتنا وأمتنا». فالمقاومة، يقول السيد، «لا تسقط. (بل) تنتقل من يد مجموعة الى مجموعة، من فصيل الى فصيل، من حزب الى حزب، من عنوان الى عنوان. ولكن تبقى الفصائل والأحزاب والاطر والعناوين مجرد مظهر خارجي للجوهر الحقيقي لهذه الامة، جوهر المقاومة ورفض الظلم والطواغيت». وهذه الفكرة أعاد تكرارها السيد نصر الله في كلمته في 25 أيار 2012 في ذكرى الانتصار في تعليقه على ما قاله اسحاق شامير عن هزيمة الكيان الصهيوني. هذا، كما يبدو، هو أحد الأسباب الحقيقية للهجوم على حزب الله، لأنّنا في الواقع لسنا في محضر جدل فقهي، فهذا له مكان آخر لا يهمنا هنا، ولأنّنا أيضاً لم نسمع حزب الله يستخدم التاريخ العربي والدين الإسلامي، وببراعة، إلا في مواجهة الكيان الصهيوني. بل لأنّنا في حالة صراع سياسي توظف فيه كل الأسلحة بما فيها الدين.
أو، لو انتبه أسانج، من ضمن خطابات كثيرة، الى كلمة السيد نصر الله في مؤتمر المقاومة في 20 أيار 2009 والتي عرض فيها كيف يمكن أن يكون الإسلام أداة تحررية فعالة انتصرت في أيار وتموز، وأيضاً كيف يمكن أن يكون أداة طيعة في خدمة استراتيجية الهيمنة الغربية على منطقتنا (كما نرى في «مبادرة «توماس فريدمان العربية للسلام» الممهورة بختم خادم الحرمين). لكن إذا كان هناك من لا يستطيع إلا أن يُصنف مقاومة الكيان الصهيوني مذهبياً حتى يعاديها، فهو لا يُجرم بحق حزب الله فقط، بل بحق فلسطين ولبنان وأهل المنطقة كلها، شيعة وسنة ومسيحيين.

ما قبل السيد نصر الله

يروي رشيد رضا عن استاذه محمد عبده حديثه عن الأثر العميق الذي تركه عليه وعلى حياته وفكره لاحقاً لقاؤه الأول بجمال الدين الأفغاني (أواخر 1286 هجري، 1869 ميلادي) بالحديث عن إعجابه وانبهاره بتفسير الأفغاني المتميّز والجديد على عبده، طالب الأزهر حينها، للقرآن. فتفسيره الجديد عليه ملأ قلب عبده «عجباً وشغفه حباً»، كما نقل عنه رشيد رضا (تاريخ الإمام، ج 1، ص:26). وتأثير الافغاني العميق على عبده استمر لاحقاً، كما قال، وحتى أنه أثر في شخصيته ــ ساهم في تحوله من شخص منعزل تماماً تقريباً الى ناشط منخرط في الهم الشعبي، واخرجه، كما روى رضا «من خمول تصوفه وخمود أزهريته الى ميادين الجهاد في سبيل التجديد الديني، والإصلاح الاجتماعي المدني، يخوض غمار الثورات، وتتقاذفه أمواج الأسفار، وتكافحه فتن الامراء المستبدين، وجهالة حملة العمائم الجامدين» (المصدر السابق، ص: ط).
والأهم، كما روى رضا، أنّ عبده «قرأ على السيد (الأفغاني) كتاب الزوراء للدواني في التصوف، وشرح القطب على الشمسية (شرح القطب الرازي على الرسالة الشمسية للقزويني) والمطالع (المطالع السعيدة للسيوطي، والمطالع النصرية للهوريني) وسلم العلوم (محب الدين البهاري) من المنطق، والهداية والإشارات (لابن سينا) وحكمة العين (الكاتبي) وحكمة الإشراق (السهروردي) في الفلسفة، وعقائد الجلال الدواني في التوحيد، والتوضيح مع التلويح في الاصول (شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه للتفتازاني)، والجغميني (الملخص في الهيئة البسيطة)، وتذكرة الطوس في الهيئة القديمة (التذكرة في علم الهيئة لنصير الدين الطوسي).» (المصدر السابق، ص: 26 – التوضيح لأسماء الكتب وأصحابها بين الاقواس مضاف بتصرف).
وتأثير الروح الثورية للأفغاني على محمد عبده وأثر قراءته للكتب السالفة الذكر سيظهر لاحقاً عندما يصبح التلميذ بدوره أستاذاً في الأزهر فيقرأ طلابه عليه من الكتب ما لم يكن حينها يُدَرَّسْ أو حتى معترف به أصلاً في الأزهر مثل «شرح العقائد النسفية» للإمام سعد الدين التفتازاني، وهو كتاب صغير الحجم لكنّه يتضمن شرحاً فلسفياً لكتاب «العقائد» لنجم الدين النسفي يبدو أنّه أثر في عبده والافغاني لدرجة أنهما علقا عليه أكثر من مرة وقام عبده بتدريسه لاحقاً (انظر سميرة حاج: «إعادة تشكيل التقاليد الإسلامية»، فهمي جدعان: «اسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث»). والمثير في هذا الكتاب، الذي أثار سُخْط الأزهر حينها وقَلَّبَهُ على عبده، أن النسفي كان متأثراً بالمعتزلة وأفكارهم وهو ما يفسر لماذا لا يزال البعض حتى اليوم ينتقد التفتازاني ويرفض مبدأه (ومبدأ المعتزلة) بتقديم العقل على النقل. وبعيداً عن التفصيل، أيضاً، أغلب القراءات السالفة الذكر التي تعرف عليها عبده عن طريق الأفغاني هي بمجملها عابرة للمذهب، أو ليس فيها مفهوم المذهبية القطعي الذي يسوق له هذه الأيام. وهذا يفسر رفض احاديي التفكير، وأتباع الثنائية القطبية في الإسلام، لبعض هذه القراءات فهي تخلق مأزقاً لهم حين لا تتوافق مع سطحية خيالهم الديني والمذهبي ــ يذكر أحمد أمين في «زعماء الإصلاح في العصر الحديث» أنّ «هذه الكتب لم تكن لها قيمة في ذاتها»، وأن الشيخ حسن الطويل كان يقرأ بعضها في الأزهر، وإنما كانت أهميتها في طريقة قراءة الأفغاني لها من أجل «شرح أفكاره وآرائه، والتبسط في مناحي الفكر، والتطبيق على الحياة الواقعة، ونظرته الى العالم كوحدة، مازجاً التصوف بالفلسفة وبالهيئة وبغير ذلك» (ص: 65)، وهذا رأي يمكن الاختلاف معه قليلاً لأنه حكم فلسفي عام قد ينطبق على أي كتاب، إذا سلمنا طبعاً أن المهم هو القارئ لا الكتاب أو الكاتب.
والمعتزلة، المعروفون أيضاً بأهل «التوحيد والعدل»، تبعاً لأهم مبادئهم، لم يكونوا فقط أول من حاول، وبمنهجية، عقلنة العقائد الإسلامية وأسسوا لمركزية العقل وقدموه على النقل، بل هم أساس فكرة الإصلاح والتجديد في الإسلام التي يتغنى بها من لا تروق له أفكارهم ومن يتأزم حين يتكسر إطاره المذهبي في مواجهة الواقع والتاريخ الفعلي. ومن أعلامهم، عدا واصل بن عطاء الذي هو أصل التسمية التي أطلقها عليه الحسن البصري، كما أشار الشهرستاني (هناك فرضية اخرى ترى في اعتزال القرن الثاني امتداداً لمعتزلة الصراعات السياسية الاولى)، الجاحظ، ونجم الدين الرازي، وأبن الرواندي، وأيضاً القاضي عبد الجبار الذي حفظ كتابه الرائع «المُغني في أبواب التوحيد والعدل» بمجلداته الخمسة بعض تاريخ وقصة الاعتزال وأفكارها. ولإدراك الأهمية الفكرية لهذه الحركة ومساهمة منتسبيها، يكفي فقط الاطلاع على أثر الجاحظ في الفكر الإصلاحي الإسلامي حتى اليوم وتأسيسه لفكرة الإصلاح ذاتها التي حمل لواءها الأفغاني في القرن التاسع عشر وتلاه الكثيرون لاحقاً. فمع المعتزلة، ومع الجاحظ تحديداً، ولدت الفكرة التي نعرفها اليوم بالإصلاح أو التجديد في نظريتة في التطور التاريخي وفي سلسلة مفاهيم في مقدمتها مفهوم «التقهقر»، الذي يشير إلى التحول وإمكانية الانتقال الى مراحل اخرى.
ففي رسالته الى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دُواد الشهيرة بـ«في النابتة» يقدم الجاحظ نظرية في التطور التاريخي مشتقة من الأحداث السياسية يقسم فيها التاريخ الأسلامي الى ثلاث مراحل، أو طبقات ومنازل كما سماها (انظر نص الرسالة في «رسائل الجاحظ، ج2، ص: 7-23. أيضاً، انظر شرح الرسالة عند فهمي جدعان، «اسس التقدم»، ص: 28-30). اللافت في تقسيم الجاحظ لهذه المراحل (التوحيد، الفجور، الكفر) أنها سياسية بامتياز، رغم محاولة تبريره للتوصيف عبر الإشارة لمخالفة اسس الإسلام. فما سماه عصر «الكفر» وهو عصر ظهور «النابتة»، عنوان الرسالة، لم يتميّز عن عصر «الفجور» الذي سبقه إلا بقيام البعض بتسويغ أعمال، وحتى الدعوة لمن سماهم الفَجَرَة (الحكام). فما حدث منذ مقتل عثمان وعلي، وهي بداية مرحلة الفجور، ثم تأسيس الملكية الاموية (الكسروية في شكلها كما أشار) وما تبعها من تصرفات خالفت برأيه اسس الإسلام لم يختلف مع ما تلاه إلا بقبول الناس بِجَوْرِ السلطة التي ميزت المرحلة الجديدة (استخدام الدين في الدفاع عن السلطان الجائر).
لم يكن الجاحظ سنياً أو شيعياً بالمعنى القطعي للكلمة كما يسَوّق اليوم، كان مسلماً معتزلاً بالمعنى الفكري والسياسي للكلمة. لم يكن شيعياً، لكنه كان يبغض بني امية وبني مروان ويحب آل البيت «مصابيح الظلام وأوتاد الإسلام» (ص:12) وقهره ما حل بهم على يدي من وصفه «بالخليع»، وهو ما يمكن فهمه كانحياز الى مشروع سياسي (انظر طه حسين، «الفتنة الكبرى». هشام جعيط، «الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر») وأخلاقياً، لأن المواجهة كانت بين معاوية الذي ظن «أنّا لا نصل الى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل» وعلي الذي «لا يريد إلا الحق من طريق الحق، وإلا فلا كان» (أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص: 109).
كان الجاحظ مثل غالبية المسلمين بغض النظر عن مذهبهم: تَحَسّرَ لقتل عثمان الذي «ما سمعنا بدم بعد دم يحيى بن زكريا عليه السلام غلا غليانه»، (وهو يكون بذلك مثل الإمام الحسن الذي حزن لمقتل عثمان حتى أنّ طه حسين وصفه «بالعثماني»)، وأحزنه مقتل علي الذي «أسعده الله بالشهادة وأوجب لقاتله النار واللعنة»، ووصف قاتله «بِأشقاها»، وكان يحب الحسين واعتبر قتله دلالة على مرحلة «الكفر».
ولأن الرسالة بالرسالة تذكر، أختم بما جاء في رسالة من فردريك انجلز الى فرانز مهرنج بتاريخ 14 تموز 1893 عن حالة مشابهة. يقول: «لو استطاع ريتشارد قلب الاسد وفيلييب اوغست أن يُدْخِلا التجارة الحرة بدلاً من أن يَنْجَرّا الى الحروب الصليبية، لأمكن تجنب خمسمائة عام من البؤس والغباء».
* أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدوليّة في جامعة ويسكونسن ــ بارك سايد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق