الأحد، 26 أغسطس 2012

حوار حول العلاقات المصرية الإيرانية ومؤتمر دول عدم الإنحياز




حوار حول العلاقات  المصرية  الإيرانية ومؤتمر دول عدم الإنحياز اجراه الباحث د. هيثم مزاحم مع الشيخ علي خازم








ما هي أهمية هذه الزيارة للرئيس
المصري إلى إيران وهل من إمكان لاستئناف العلاقات الإيرانية المصرية بعد ثلاثة
عقود من قطعها؟


إذا تمت الزيارة  وإذا
لم  يحصل ما يعيقها كما في  كل المحاولات السابقة لتصحيح العلاقات المصرية
الإيرانية فإن لها دلالات هامة  على
المستوى الداخلي المصري أبرزها تغير سقف التوجهات لدى الأجهزة الأمنية المصرية
التي كانت تحبط كل مسعى من الديبلوماسية المصرية للتقارب مع إيران بافتعال قضايا مثل  "التنظيم الشيعي" بحيث يصير الأمن
القومي المصري مهددا من إيران لتتراجع الخارجية المصرية عن خطواتها.


أما الإمكانية  فقد
كانت دائما قائمة وهي اليوم من باب تحصيل الحاصل في حركة مصر لاستعادة دورها
الإقليمي.


ما أهمية إعادة العلاقات المصرية
الإيرانية وضرورة إعادة فتح السفارة المصرية في طهران والسفارة الإيرانية في
القاهرة؟


السفارات عادة  هي  قنوات تواصل مباشر وتتولى متابعة الإتفاقيات
فضلا عن توليها رعاية المؤسسسات المشتركة وهي للمناسبة كثيرة بين إيران ومصر سواء
المؤسسسات الحكومية المشتركة كبنك مصر إيران الذي تعرض لاتهامات اميركية قبل
عامين  والمؤسسة المصرية الإيرانية  للنسيج او المؤسسات الشعبية  والثقافية والتعليمية الأزهرية والأكاديمية
الأخرى.


هل ترى ضرورة تحالف كل من مصر وإيران
والعراق وسوريا ودول عربية وإسلامية أخرى ضد الكيان الإسرائيلي؟


وحدة الموقف العربي والإسلامي ضرورة لمواجهة تحديات القرن الحالي والقادم سواء على المستوى الوجودي في ما
يعني الإحتلال الإسرائيلي وتداعياته الغربية اوعلى المستوى الحضاري والتنموي في ما
يعني تحسين  الأوضاع الداخلية لدول منظمة
التعاون الإسلامي او بتقديم النموذج الإنساني الامثل على المستوى العالمي.


كيف تفسر القلق الأمريكي والصهيوني من
زيارة مرسي لطهران؟


موضوع القلق من مصر الجديدة هو سعيها لاسترداد السيادة
الوطنية  واستقلال القرار السياسي وفك
الارتباط الخادم  لمصالحهما في المنطقة لذي
سيفرض تغييرا في أجندات حكومات اخرى في المنطقة احتياطا لاستمرارها وعدم سقوطها في
دائرة الانتفاضات الشعبية.


ماذا تتوقع من مؤتمر قمة عدم الانحياز
ودورها في تطورات المنطقة ولا سيما في فلسطين وسوريا.


أتمنى ان يتمكن المؤتمر من استعادة  كثير من الدول إلى مواقعها التاريخية  في مواجهة الاستكبار الأميركي والطغيان الغربي
وخصوصا في ما يعنينا كقضية فلسطين .


كيف يمكن لدول عدم الانحياز أن تستعيد
دورها وتشارك في قرارات المنطقة وأن تتخذ مواقف حاسمة تجاه تحولات المنطقة؟


هذا يتطلب رؤية جديدة للنظام العالمي
مبنية على واقع الدول المشاركة وتعيين قضاياها المشتركة وآليات عمل متعددة لا تسمح
بإنتاج هيمنة جديدة.


ما رأيك في مسالة تعديل النظام
السياسي للأمم المتحدة ومجلس الأمن. كيف يمكن لدول عدم الانحياز أن تؤدي دورا في
عملية تعديل النظام السياسي للأمم المتحدة ومجلس الأمن؟


هذا السؤال مطروح منذ فترة لكنه يبقى
أسير مقولة الشعر والإنشاء  العاطفي ما لم
تعزز المنظمات الإقليمية تعاونها السياسي والإقتصادي لتستعيد استقلالها عن عجلة
الإقتصاد الغربي الذي يطحن بمؤسساته احلام الفقراء وعندها يمكن الكلام عن التغيير
الطبيعي والتعديل الذي يصير حاجة ماسة.





الخميس، 16 أغسطس 2012

حوار مع الشيخ علي خازم في يوم القدس العالمي





حوار  مع الشيخ علي خازم في يوم القدس العالمي - وكالة فارس للأنباء .







الإمام الخميني سمّى آخر يوم جمعة من رمضان بيوم القدس العالمي. في رأيكم ما هي معاني هذا الإعلان  وما
هي تأثيراته على القضية الفلسطينية؟


أعاد الإمام الخميني "قده" في
وقتها إلى القضية الفلسطينية بعدها الديني 
وبذلك اعادها إلى ساحتها العالمية بعد الإتجاه بها لحصرها ببعدها القومي
العربي بل القطري الفلسطيني.


هل كانت هناك نتائج عملية
لهذا الإعلان في دعم المقاومة في لبنان وفلسطين وكيف؟


لقد رتب ذلك الإعلان على  الجمهورية الإسلامية جملة من المسائل تجاه
القضية والشعب الفلسطيني ظهرت في تقديم اصناف الدعم المادي والمعنوي لممثليه من
تنظيمات ومؤسسات وكذلك في تبني خياري المقاومة والممانعة  على المستوى الحركي والديبلوماسي من اعتماد
سفارة  لفلسطين في طهران إلى تقديم كافة
أشكال الدعم العسكري واالمالي. وأهم من ذلك هو تقديم البرهان الحي على قدرة الشعوب
على استرداد حقوقها من حكومات الجور والطغيان مهما بلغت في قوتها ومهما كانت صنوف
الدعم الخارجي لها.


بعد عشرين سنة من مفاوضات
التسوية مع الكيان الإسرائيلي، أصبحت قضية فلسطين في المجهول ما هو البديل عن هذا
الخيار؟


البديل هو العودة  إلى خيار المقاومة والمواجهة العسكرية بدعم
الشعوب الإسلامية  والشعوب التي استعادت
وعيها لحقيقة الغصب والإحتلال الصهيوني لفلسطين فضلا عن وعي العالم  للاعمال الوحشية  التي تمارسها حكومة إسرائيل.


هل أثر انتصار المقاومة في
لبنان وتحريرها للأرض على دعم انتفاضة الشعب الفلسطيني وتمسكه بخيار المقاومة؟
وهل
من تأثيرات لانتصار تموز وانتصار 2000 على المقاومة الفلسطينية كنموذج؟


لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية في حرب غزة 2009
وانتصارها فيها حجم الإستفادة من التجربة اللبنانية في مجالات الإستعداد لحفظ واقع
الشعب الفلسطيني والقدرة على تحصيل الدعم 
العالمي بل لفرض التغيير على أجندات الكثير من حكومات  العالمين العربي والإسلامي والعالم.وظهر ذلك في
المواقف الدولية في منظمات اممية كالأونيسكو وغيرها.


هل من تفاؤل بانتفاضات
الربيع العربي وخدمتها للقضية الفلسطينية؟


التفاؤل قائم باستعادة وعي الشعوب العربية
لقضاياها وترتيب اولوياتها من جهة وتحديد مصادر الإستقلال السياسي واستعادة
السيادة الوطنية على مواردها من جهة اخرى مما يعني قطع يد الحكومات الداعمة للكيان
الصهيوني الغاصب وتجفيف منابع استمراره في اغتصاب فلسطين وهدر الحقوق الإنسانية
للفلسطينيين.


هيثم مزاحم





اليوم - السعودية - التعايش الإسلامي والأجندات

اليوم - السعودية - التعايش الإسلامي والأجندات


التعايش الإسلامي والأجندات

التعايش الإسلامي والأجندات
تلتئم القمة الإسلامية الاستثنائية الثالثة في مكة المكرمة وسط تحديات لم يشهدها العالم الإسلامي منذ الحرب العالمية الأولى، فأمام القمة قضايا سوريا وبورما وفلسطين، وكما نعلم فإن عدد الدول التي تشارك في القمة 57 دولة، تتفاوت كل منها من حيث تركيبتها الدينية والمذهبية والعرقية والثقافية. أما ما يجمعها ويسربلها فهو ثوب الإسلام الحنيف وإلا لما التأم جمعها في قاعة واحدة.
وقد تناولت القمة الاستثنائية الثانية تناولاً عميقاً أهمية الارتكاز على ما يجمع كأداة لنبذ الفرقة وتقوية الذات واللحمة بين الدول الأعضاء، وبين تلك الدعوة والتقاتل المشاهد حالياً والتنابز والحنق والتكفير بون شاسع، ما يدفع للقول: على الأمة الإسلامية أن تختار بين طريق التعايش بين مكوناتها باحترام وحرية وبين مكافحة بعضها بعضاً فيعمل كل طرف من مبدأ، أن الطرف المسلم المقابل هو سبب كل بلاء على وجه البسيطة في الماضي والحاضر والمستقبل! أما القمة الإسلامية فقد حسمت هذا الجدل لمصلحة التعايش والتآلف، وأما التحدي على الأرض فهو الالتزام بما قررته القمة، إذ لا يستقيم أن يتحدث أحد عن التعايش ويمارس التباغض والتقاتل والتمترس خلف ما يفرق،
ويجب ألا ننسى للحظة أن الدول الإسلامية هي دول ذات سيادة لكل منها علم وأرض وحدود وتطلعات وطنية والأهم من هذا كله أن لكل من تلك الدول شعبا له سمات وطبائع وشئون وقضايا وطنية ومصالح سياسية اقليمية ودولية، وهكذا نجد أن لكل دولة من الدول الإسلامية المشاركة في القمة أجندة وطنية تمثل همومها وتطلعاتها، وليس واضحاً مدى التطابق بين الهموم والتطلعات على المستوى الوطني لكل دولة وبين الأجندة الإسلامية، فأجندة القمم الإسلامية كانت دائماً أجندة تعايش وتقارب واستنهاض الأمة واستلهام مصادر قوتها والطاقة الكامنة لدى شعوبها. أما على مستوى كل دولة فلابد من رسم خط يصرّ على التعفف عن الخلط بين التنوع والتقاطعات الدينية والمذهبية وبين الولاء الوطني؛ إذ ليس بينهما تعارض رغم احتدام الجدل حول الالتقاء الفكري أو المذهبي أو العقدي وتناقض ذلك مع انتماء أو كمال انتماء شخص للدولة الوطنية، فالاصرار على التشكيك في المواطنة ارتكازاً إلى مذهب هو إصرار يناقض ما تناولته كل القمم الإسلامية بما فيها القمتان الاستثنائيتان الأخيرتان، بل إنه إصرار يهد ركيزتين سوياً؛ يدحر فكرة التعايش الإسلامي دحراً ويفتك بولاء المواطن لوطنه فتكاً.

الطائفيون.. أعداء الوطن | صحيفة المدينة

الطائفيون.. أعداء الوطن | صحيفة المدينة

الطائفيون.. أعداء الوطن
الوطن هو الحضن الأكبر، وهو الأم التي لا تضن بحنانها على أي من أبنائها. وهو الشمس التي تشرق على الجميع دون تمييز
أنس زاهد
الأربعاء 15/08/2012
إذا أصبحت الطائفة هي الوطن والوطن هو الطائفة، فقل على الوطن السلام.
الوطن لا يقبل شركاء في الحب، هذه هي شريعة الوطن، ومن لا يقبل بهذه الشريعة فإن الوطن لا يقبل به.
الوطن هو الحضن الأكبر، وهو الأم التي لا تضن بحنانها على أي من أبنائها. الوطن هو الشمس التي تشرق على الجميع دون تمييز، وهو المطر الذي يأكل من خيره كل من يعيش فوق أراضيه. الوطن هو البحر والأرض والسماء والهواء والإنسان والذاكرة والانتماء والهوية والتاريخ والحاضر والمستقبل.. وحبيب يحمل كل هذه المواصفات يستحق ألا يشاركه أحد في الحب.
الشخص الطائفي لا يمكن أن يشعر بالحب تجاه الوطن. كل طائفي يدعي الوطنية هو كذاب يحاول أن يخفي حقيقة عدائه للوطن. العاشق يحب معشوقه كما هو.. ليس هناك عاشق حقيقي يطمح في تغيير محبوبه.. والوطنيون الحقيقيون يحبون أوطانهم كما هي.. إنهم يحبون أوطانهم ليست لأنها أجمل بلاد الدنيا أو أغناها أو أعظمها أو أقواها.. وهم لهذا السبب، يحبون أوطانهم بكل مكوناتها الاجتماعية والثقافية.. الوطنيون عاشقون، والعاشق يحب معشوقه دون شروط وبدون انتقائية.. لا يمكن للعاشق أن يحب معشوقه بشكل مجزأ، فيكره فيه بعض الأمور ويحب فيه أمورا أو صفات أو مكونات أخرى.
العشق كل لا يتجزأ.. والوطنية حالة عشق.. أتحدث هنا بالطبع عن الوطنية في بعدها العاطفي والشخصي، ولا أتحدث عنها هنا كمفهوم تعاقدي يرتكز إلى فلسفة الحقوق والواجبات وقيم العدالة والمساواة والحرية.
الطائفيون هم أعداء الاوطان الحقيقيون، وكل طائفي لا يجد حرجا في أن يظاهر العدو على وطنه. كل الطائفيين خونة ومستعدون لتسليم رقبة الوطن لأية قوة خارجية، المهم لديهم أن يتخلصوا من الطوائف الأخرى، لكن كثيرا منهم لا يعلمون أنهم لن يجدوا وطنهم إذا ما نجحوا بالفعل في التخلص من تلك الطوائف.
لو ضاق الوطن بأحد مكوناته، فهذا يعني أنه في سبيله لنحر نفسه. لا يصبح الوطن وطنا إلا إذا اتسع للجميع.

السبت، 11 أغسطس 2012

الإمام علي عليه السلام وعلم الكلام






بمناسبة ذكرى إستشهاد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هذه المقالة من كتابي على باب علي :






الإمام علي عليه السلام وعلم الكلام




يفترض العنوان علاقةً ما بين طرفيه, فإذا التزمنا تأخر نشوء العلم عن الإمام, من حيث تحرير مسائله وتجميعها, هل يمنع ذلك تأثيره عليه السلام فيه؟ أم أنه يحقّ لنا خوض غمار البحث مفترضين أن الالتزام بالتاريخ يجعل ممن باشر النظر وأبدى الرأي في مسائل علم ما جزءاً منه. أَوَليس يُعَدّ هذا الأمر مقبولاً في العلوم المختلفة فلماذا يتوقف فيه هنا؟ قد يرى البعض[1] أن ليس ثمة سبب واضح لذلك إلا تفرّد الإمام بهذه المباحث من بين أقرانه (صحابة وتابعين معاصرين), فضلاً عن الموقف السلبي لبعضهم من طرح هكذا مسائل, وضمناً ينجرّ البث هنا إل عملية التشكيك المتكرر في صحّة نسبة هذه الآراء إليه عليه السلام.



وقد استوقفتني هنا مسألةٌ هي ضرورة البحث المعمّق عن قيمة إدخال الإمام عليه السلام في علماء الكلام, واعتباره أوّل من تكلّم, والآثار المترتّبة على هذا التوجّه.



أليس من شأن الانطلاقة على أساس الإحساس بمظلومية الإمام والعصبيّة له أن تخرجه عن كونه جزء العقيدة التي جاء "الكلام" ليدافع عنها؟ شأن المذاهب الكلاميّة في كلّ الأديان, والإسلام خصوصاً؟



هذا ما أعتقده لالتزامي بإمامته عليه السلام, وما يترتّب عليها من اعتبار كلامه جزءَ النّص الدّيني, ومفسّراً له من داخله, ولغيري أن يراه كما يشاء. وعليه, فإنني أذهب في البحث عن تأثير الإمام والأئمة من بعده في المدارس الكلامية والفلسفية, في التفكير الكلامي والفلسفي لا في البحث عن كونه من علماء الكلام


تعريف علم الكلام




تيرى "الفارابي" أن الكلام: "صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة, التي صرّح بها واضع الملة, وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل"[2].



ويرى "الإيجي" أنه علم "يُقتدر معه على إثبات العقائد الدّينية بإيراد الحجج ودفع الشُّبه, والمراد بالعقائد ما يُقصد فيه الاعتقاد نفسه دون العمل, وبالدّينية المنسوبة إلى دين محمد عليه السلام, فإن الخصم وإن أخطأناه لا نخرجه من علماء الكلام"[3].



بينما يرى "الغزالي" أنّ المقصود من الكلام "حفظ عقيدة أهل السّنّة وحراستها من تشويه أهل البدعة"[4].



تطرح هذه النماذج من تعريف علم الكلام واحدةً من المسائل في مقدّماته, وهي أنّ علم الكلام يثبت العقائد الدينية بطريقٍ آخر هو العقل, أو أنّه وجد للدّفاع عنها فقط.



وقد لاحظنا هذا الفرق بين رأيي "الغزالي" و"الفارابي", وما ذَهَبَ إليه الإيجي من الجمع بينهما, وقد تبنّى الشّهيد "مطهّري" الرأي الأخير بقوله عن علم الكلام "يبحث فيما يجب معرفته من المعتقدات بنظر الإسلام على النّحو الذي يوضحها ويستدلّ عليها ويدافع عنها"[5].



وهذا الفرق من الأسس في الاختلاف بين الفلسفة الإسلامية والكلام الإسلامي الذي ترتّبت عليه مسائل الاختلاف المتعددة.



وقد اختلف في تسمية هذا العلم قديماً. فذكر عناوين مثل: "علم الكلام", "الفقه الأكبر", "أصول الدين", "علم التوحيد والصفات", "علم النظر والاستدلال" و"العقائد", إلا أن المتأخّرين عنهم درجوا على استخدام "علم الكلام" كعنوان للمباحث الخاصة به, ولتفسير هذا الاصطلاح واختصاصه بالكلام مورد آخر.



ما يهمّنا هنا, أنّ هذا العلم مظهر للحركة الفكرية عند المسلمين في مجال العقائد الإسلامية, التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وآله, وأنّه والفلسفة الإلهية, بل والتصوّف كما ذهب إليه البعض من حيث "اعتباره جزءاً من نظريّة المعرفة, أي طريقاً ثالثاً, إلى جانب الحسّ والعقل"[6], قد قدّموا للمسلمين الأجوبة عن تساؤلات نشأت بينهم بغضّ النظر عن مصدرها.



بدايات علم الكلام.



للبحث عن بدايات علم الكلام, يجب الانطلاق من التعريف المتضمّن لغرضه, وصيغة الجمع (بدايات) ناشئة عن أن المباحث الكلامية لم تأتِ دفعةً واحدة من حيث الزمان, بل طرحت في فترات مختلفة, والتأريخ لها, هو تأريخٌ لمجمل العلم.



وقد اضطربت آراء المؤرخين فيه, وأحسبه راجعاً إلى سببين:



1- الاختلاف في تحديد أولى المسائل المطروحة والإجابة عليها.



2- الاختلاف في تفسير منشأ التساؤلات وطبيعتها.



ويمكننا هنا أيضاً الوقوف عند اعتبار بعض الشخصيات من علماء الكلام, أو أنّها من "رواة الحديث" في المباحث العقائدية ك"ابن حنبل" مثلاً أو كما عند الشيعة, مصدراً من مصادر الحديث كالأئمة عليهم السلام.



العلاقة بين "الفلسفة والكلام" و"القرآن الكريم والحديث الشريف".



والمراد من الفلسفة هنا ما اصطلح عليه بالفلسفة الإلهية, أو فلسفة المسلمين, حيث لم يخرج أحدٌ من الفلاسفة عن صحّة الاعتقاد بالإسلام حتى الذين قاربوا المنهج المادّي في طبيعيّاتهم ك"ابن رشد", فالمشهور أنه لم يوجد في التاريخ الإسلامي فيلسوف مادّي واحد.



على هذا, وكما يرى "الشيخ عبد الله نعمة" فإن "علم الكلام يدخل في فلسفة ما وراء الطبيعة لأنه جزء منها, ويلتقي في أكثر مواضيعها وخاصةً حين نأخذ باعتبارنا تعريف علم الكلام بأنّه البحث على الموجود من حيث ملاءمته للدّين على خلاف الفلسفة بقول مطلق التي لا تتقيّد باعتبار خاص"[7].



وكلام الشيخ رحمه الله ناظر إلى أعمّ من الفلسفة الإسلامية التي لم تخرج في مباحثها المرتّبة على النّسق اليوناني عن استهداف الوصول إلى العقائد الإسلامية وإن بتفسيرٍ يختلف مع مذاهب الكلاميين في موارد عدّة, أبرزها تفسير وجود العالم بعد الاتفاق على وجود الخالق, وأنّه على نحو الفيض فهو قديمٌ مقابل قول المتكلّمين بأنّه حادثٌ ممكن أو محتاج وأنّ السّبق دهريّ أو زماني الخ...



علم الكلام والفلسفة الإسلاميان إذاً, يمثّلان اللاهوت الفسّر الذي يأتي عادةً بعد مرحلة طرح العقيدة الدّينيّة من قبل النبي, فالقرآن الكريم والحديث النّبوي قدّما للمسلمين نظاماً للعقيدة, وقد تقبّله المسلمون في عهد النبيّ (ص), ليس كما ادّعى البعض دون جدل مطلقاً بل قبلوا منه ما اتّفق مع بساطة الفطرة, أو جاء واضحاً لأذهانهم, لكنّهم لم يدعوا السؤال عمّا تحيّروا فيه من التّوحيد والروح والساعة وغيرها... وتفيض بهذه التساؤلات والإجابات الآيات الكريمة وكتب الحديث.



نعم يمكننا القول إن الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة, لم تتعرّض لأكثر التّفاصيل التي غاص فيها المتكلّمون المسلمون فيما بعد, أو الفلاسفة.



وهنا يصل البحث إلى تميّز الشّيعة عن بقيّة المذاهب باعتقادهم حجية أقوال أئمّتهم كجزء من "السّنة", لكن هذا الأمر يطرح أشكالاً هو كيفية قبول "النقل" في المسائل الاعتقاديّة التي يجب فيها "النظر"؟ وقد أجيب عليه أولاً: بقبول ما يجري منه مجرى البرهان العقلي كما في أكثر محاورات الإمام علي (ع) والإمام الصادق (ع) مع بض المتشكّكين أو الزنادقة, وثانياً: أنه ثمة مسائل لا يمكن للعقل البرهان عليها, وإنّما يمكن أن يكون دليلاً على أساسها في أحسن الأحوال.



وعلى ماذكرنا, فإنّ المدرسة الكلاميّة الشّيعيّة, وفي فتر ة تمتدّ إلى غيبة الإمام المهدي (عج) في القرن الثالث الهجري كانت تصدر عن أئمة المذهب مباشرةً بالمعنى المذكور[8], وعن متكلّمين بارزين تلامذة لهؤلاء الأئمة ك"ميثم التمار" من أصحاب الإمام عليه السلام, وأحد أحفاده "علي بن إسماعيل" (المعاصر ل"عمرو بن عبيد" و"أبي الهذيل العلاّف") و"أبي جعفر مؤمن الطّاق محمد بن علي بن النّعمان الموصوف بالكلام وصاحب المجالس المشهورة مع "أبي حنيفة", وهو من تلامذة الإمام الصادق(ع), وغيرهم كثير[9].



ما ذكرناه يساعد على إظهار أنّ ما قاله "إبن خلدون" عن اعتبار الكلام من العلوم النّقليّة, وأنّ سبب ظهوره هو البحث في المتشابه من القرآن الكريم والحديث[10], له أساسٌ متين, وأنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين العمل العقلي لإثبات أو الدفاع عن العقيدة الإسلامية – في القرون الثلاثة الأولى على الأقل- وبين القرآن والحديث, وهو يلاحظ في الجانب الشّيعي استمراراً, فميا تبرزه في الجانب السّنّي مدرسة أهل الحديث.



هذا أولاً, وثانياً, إنّ الشّيعة بالاعتبار المذكور لا يظهر عندهم تباينٌ بين كلامهم والحديث على الأقل في الفترة المذكورة, لإمكان الرجوع في المسائل المطروحة إلى الأئمة (ع), فيما يقال إنّ المدارس السّنيّة في الكلام جاءت كضرورة لتقديم ما لم يقدّمه النّقل أو لمنع البحث فيه تعبداً.



وما تقدّم يدعم القول بأن علمَ الكلام قد نشأ عن مؤثرات وأسباب من داخل المجتمع الإسلامي, وأن الوافد (يونانياً كان أم غير ذلك) إنّما ساهم في البلورة والتّفصيل.




عودة إلى البدايات




قلنا فيما سبق إن الاختلاف في التأريخ لعلم الكلام يرجع إلى اعتبار مسائله وتعريفه, فإن أريد اعتبار مسألة كلام الله وأنه قديم أو مخلوق, والفتنة التي جرّتها, هي البداية أمكن ذلك الاعتبار بنحوٍ ما, وقد وجهه البعض باعتبارها أبرز مسائله فسُمّيَ بها. وهذا يجعل بدايته متأخرة إلى العصر العبّاسي.



وقد رأى البعض أنّ علم الكلام قد أخذ تسميته من قولهم "هذا هو الكلام دون غيره" أو لأنّ كتبَه عُنوِنَت ب"الكلام في المسألة الفلانيّة", وقيل إنه أخذ هذه التسمية لأنّه يبحث في أمور رأى "أهل الحديث" وجوب السّكوت عنها, وهو ما يشوّش التأريخ. وإذا نظرنا إلى مسألة "الجبر والاختيار" باعتبارها من مسائل هذا العلم الهامّة, رجعنا في التاريخ إلى مرحلة سابقة على العصر العباسي , وبحسب دعوى البعض يكون "معبد الجهني" المعاصر ل"عبد الملك", و"غيلان الدمشقي" المعاصر ل"عمر بن عبد العزيز" الأمويين من أوائل من تكلّم به.



هذان المثالان يوضحان طرفاً من الاضطراب المذكور, وقد لخّصنا القول, في أنّ الحقيقة التاريخية تجعل علم الكلام –من حيث غرضه- ناشئاً حول القرآن الكريم والسّنّة النبويّة إثباتاً أو دفاعاً.




موقع الإمام




إذا قبلنا المسألة السّابقة, وأنّ مسائل علم الكلام وُجدت بالتدريج, ورجعنا إلى ما رُوي عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة والكتب الأخرى المتفرّقة أمكننا اعتباره (خارج موقع الإمامة بالاصطلاح) أوّل من قدّم أطروحات وأجوبة في هذا المجال, ويفهم من كلام "العلامة الطباطبائي" وكلام الشيخ "مطهري" [11]أنّه يمكن –فيما عدا مسألة الكلام نفسها وأنه قديم أو مخلوق- أن يقدَّم من نصوص الإمام معالجة لأكثر مسائل هذا العلم.



بل يمكن تلمّس تأثير الإمام في الحركة العقائديّة للمسلمين ومن خرج عليهم من غلاة ألّهوه وخوارج رفضوه, وهو شأنٌ يجعله ليس أكبر من أن يكون واحداً من علماء الكلام فقط بل محور مسألة هامة في عقائد المسلمين والمجتمع الإسلامي بما يشمله من غلاة وخوارج كما ذكرنا.




تأثير كلامه (ع) في البحث العقائدي




أشرتُ في الفقرة السابقة الخاصة بموقعه (ع) في علم الكلام, إلى أنّه (ع) مع إغماض النظر عن إمامته قد فتح الباب وأوقد السّراج للسائرين في طريقه. فقد دعا في وصفه للطاووس مثلاً أو الجرادة إلى البحث التفصيلي في ما دعى إليه االقرآن إجمالاً من النظر في الآفاق والأنفس, ودعا إلى التزام جانب الحقيقة في البحث بقوله: "من تعدّى الحق ضاق مذهبه"[12], وبقوله: "من تعمّق لم ينب إلى الحق, ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق"[13]. والكلام عن تأثير الإمام في تحريك الفكر يطول.



بل قلنا, أكثر من ذلك, إنّه فتح بشخصه في المجتمع الإسلامي أبواباً لفرق ومدارس نفهم الباعث على نشوء بعضها ونستنكر ما ادّعاه الغلاة والخوارج. وإنّ تقصي هذا المجال تضيق به مقالةٌ كهذه, ولكن لا أقلّ من محاولة إبراز هذا التأثير في البحث العقائدي الشّيعي, وهو ما ذكرتُ سابقاً من حيث عدم الافتراق الحاد بين العقلي والنّقلي والحكمي والكلامي, فاخترت لبيان ذلك نموذجين: كتاب الاحتجاج للطبرسي [14]في المجال النّقلي, ومنظومة غرر الفرائد في فنّ الحكمة وشرحه للملاّ هادي السبزواري[15] في المجال العقلي. ومنعاً للإطالة وجرّ الملالة سيكون النقل موجزاً, قدر الإمكان إلاّ ما احتاج لدفع الإبهام.




النموذج النقلي: كتاب الاحتجاج.




لن ننقل مما رواه إلاّ بعضُ ما يدلّ على مطلبنا, لأنّ فيه إضافة إلى احتجاج الإمام (ع) في المسائل العقائدية, احتجاجاتٍ وردوداً في أكثر من مجال, قال "الطبرسي"[16]:



"احتجاجه عليه السلام فيما يتعلق بتوحيد الله وتنزيهه عمّا لا يليق به من صفات المصنوعين من الجبر والتشبيه والرؤية والمجيء والذهاب والتغيير والزوال والانتقال من حال إلى حال في أثناء خطبه ومجاري كلامه ومخاطباته ومحاوراته: الحَمْدُ للهِ الَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ، وَلاَ يُحْصِى نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ، وَلاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ المُجْتَهِدُونَ، الَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ، الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَلاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ، وَلاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ، وَلاَ أَجَلٌ مَمْدُودٌ. فَطَر الْخَلائِقَ بِقُدْرَتِهِ، وَنَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَوَتَّدَ بالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِه.



أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَكَمَالُ تَصْدِيقِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإخلاص لَهُ، وَكَمَالُ الإخلاص لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ, لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوف أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ. فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ، وَمَنْ أَشَارَ إلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ. وَمَنْ قَالَ «فِيمَ ؟» فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قَالَ «عَلاَمَ ؟» فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ. كائِنٌ لاَ عَنْ حَدَث، مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَم. مَعَ كُلِّ شيء لاَ بِمُزَايَلَة، فَاعِلٌ لاَ بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ والآلة, بَصِيرٌ إذْ لاَ مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ ، مُتَوَحِّدٌ إذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بهِ وَلاَ يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ.



أَنْشَأَ الْخَلْقَ إنْشَاءً، وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً، بِلاَ رَوِيَّة أَجَالَهَا، وَلاَ تَجْرِبَة اسْتَفَادَهَا، وَلاَ حَرَكَة أَحْدَثَها، وَلاَ هَمَامَةِ نَفْس اضْطَرَبَ فِيهَا. أَحَالَ الأشياء لأوقاتها، وَلاءمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا، وَغَرَّزَ غَرائِزَهَا، وَألْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا، عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِها وَانْتِهَائِهَا، عَارفاً بِقَرائِنِهَا، وَأَحْنَائِهَا"[17].



ثم يورد "الطّبسي بعضاً من خطبه عليه السلام مذكورة في نهج البلاغة, إلى أن يبدأ بإيراد بعض مناقشاته, منها مع النصارى حيث سأله راهب: أخبرني عن شيء ليس لله, ولا من عند الله, ولا يعلمه إلا الله. قال عليه السلام: على الخبير سقطت، أما قولك: "ما ليس لله" فإن الله تعالى أحد ليس له صاحبة ولا ولد .وأما قولك: "ولا من عند الله" فليس من عند الله ظلم لأحد .

وأما قولك: "لا يعلمه الله" فإن الله لا يعلم له شريكاً في الملك[18].



ويروي صاحب الاحتجاج [19]عن علي بن محمد العسكري عليهما السلام في رسالته إلى أهل الأهواز في نفي الجبر والتفويض أنه قال: "روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه سأله رجل بعد انصرافه من الشام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدره؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أجل يا شيخ، فوالله ما علوتم طلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر، فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي، والله ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال علي عليه السلام: بل فقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم ذاهبون وعلى منصرفكم وأنته منقلبون, ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين, ولا إليه مضطرين. فقال الرجل: وكيف لا نكون مضطرين والقضاء والقدر ساقانا, وعنهما كان مسيرنا؟ فقال أمير المؤمنين (ع): "لعلك أردت قضاءً لازماً وقدرا حتماً، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب, وسقط الوعد والوعيد, والأمر من الله والنهي، وما كانت تأتي من الله لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن، ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب، ولا المذنب أولى بعقوبة الذنب من المحسن، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان, وجنود الشيطان, وخصماء الرحمان, وشهداء الزور والبهتان وأهل العمى والطغيان, هم قدرية هذه الأمة ومجوسها. إن الله تعالى أمر تخييراً, وكلّف يسيراً, ولم يُعص مغلوباً, ولم يطع مكرهاً, ولم يرسل الرسل هزلاً, ولم نزل القرآن عبثاً, ولم يخلق السماوات والأرض وما بينها باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا, فويل للذين كفروا من النار ثم تلا عليهم: {وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إياه ..الآية}".



وروى الطبرسي [20]عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين (ع) فقال: يا أمير المؤمنين متى كان ربك؟ فقال له: ثكلتك أمك ومتى لم يكن حتى يقال متى كان؟ كان ربي قبل القبل بلا قبل, وبعد البعد بلا بعد, ولا غاية ولا منتهى لغايته, انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية, فقال: يا أمير المؤمنين, أفَنَبيٌّ أنت؟ فقال: ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد.




النموذج العقلي: غرر الفوائد في فن الحكمة وشرحها.




في مسألة "القِدَم والحدوث" وتفسيرها بعد ذكر الخلاف بين الفلاسفة والمتكلّمين, استفاد "الملاّ السبزاوي" من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): "تمام الإخلاص له نفي الصفات عنه" اصطلاحاً خاصاً سمّاه "الحادث الاسمي" ليفسّر به حدوث العالم قال:







والحادث الاسمي الذي مصطلحي



ان رسم اسم جا حديث منمحي





وشرحه بقوله "كان الله ولم يكن معه شيء ولا إسم ولا رسم ولا صفة ولا تعين, فحدث وجدد في المرتبة الأحدية الأسماء والرسوم. وكما أن كلّ ما جاء من اسم ورسم حديث لم يكن فكان, كذلك مطموس منمحي عند مصير الكل إلى الديان"[21].



ثم استفاد كذلك من قوله عليه السلام: "توحيده تمييزه عن خلقه وحكم التميّز بينونة صفة لا بينونة عزلة". قال:



"تباين الوصفي لا العزلي أثر ممن لعقل كأبينا للبشر



فالحق قد كان ولا كون لشي كما سيطوي الكل بالقاهر طي "



إشارة إلى أنّ البداية والنهاية واحد, وإلى أنّ الطيّ باسمه القاهر, كما أن النشر بالأسماء المناسبة له كالمبدع, المنشىء, المعيد[22].



وفي مبحث الصفات ذكر "السبزواري" مقالة الأشاعرة والمعتزلة والكرامية:



"والأشعري بازدياد قائلة وقال بالنيابة المعتزلة"



ونغمة الحدوث في الطنبور قد زادها الخارج عن مفطور



ما واجبٌ وجوده بذاته فواجب الوجود من جهاته"



وفي البيت الأخير رأيه وشرحه: "إنّ حقيقة كلّ صفة هي الوجود والوجود مقول بالتشكيك, فكلّ صفة له عرض عريض". فالإرادة عند "السبزواري" هي "الرضا بالمراد والوجود الصرف عين الرّضا والتّكلّم هو الإعراب عمّا في الضمير, والوجود الذي هو المعروفية والمحبىة الأفعالية إعراب عن المكنون الغيبي, والمكنون الغيبي أيضاً إعراب وإظهار بذاته لذاته وهو التكلم الذاتي". والظاهر أن هذا كلّه منتزع من قوله (ع): "...كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه, لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف انَّه غير الصفة, فمن وصف الله فقد قرنه" وقد مرت الخطبة [23]



" لسانك نهج البلاغة انتهج كلامه سبحانه الفعل خرج "



وفيه تلميح لقوله عليه السلام في نهج البلاغة وقد مرَّ معنا: "إنّما يقول لما أراد كونه كن فيكون, لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع, وإنّما كلامه سبحانه فعله"[24].



وفي بحثه عن إثبات أنّ أوّل ما صدر عنه تعالى هو العقل, وقال:



" عقلاً ونقلاً كان عقل إذ بدا لا يوجد الواحد إلاّ واحدا"



ثمّ جاء في الشّرح بأدلّة عقليّة لإثبات ذلك, وردّ بعض الأقوال, ثمّ استدلّ عليه بالنّقل من حديث رسول الله (ص): "أوّل ما خلق الله العقل", ثم بقول أمير المؤمنين علي (ع) حين سئل عن العالم العلويّ: "صور عارية عن المواد, خالية من القوة والاستعداد, تجلّى لها فأشرقت, وطالعها فتلألأت, ألقى في هويّتها مثاله, وأظهر عنها أفعاله"[25].



وقد استدلّ (قده) بما بنسب إلى أمير المؤمنين علي (ع):



أتزعم أنك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبر



على أنّ كلّ ما في الكون عكوسه تعالى شأنه, قال:



"فالعالم الأكبر كان حاوياً كان غداً كل له مرائيا (ج مرآة )



لتحق بِمُثُلٍ نُوريّة واجدة لسنخها عريّة"[26]



وآخر ما وجدته من الاستدلال بكلامه عليه السلام في العقائد عند السبزواري, ما ذكره مؤيداً لرأيه في أنّ المعاد هو الروحاني والجسماني حيث قال:



مَنْ قَصَّرَ المَعَادَ فِي‌ الرُّوحَانِي ‌ّ قَصَّرَ كَالحَاصِرِ فِي‌ الجِسْمَانِي‌ّ



وَجَامِعٌ بَيْنَهُمَا جا فَايِزَا وَقَصَباتِ السَّبْقِ كَانَ حَايِزاً[27]



فقد أنكر (قده) قول بعض الفلاسفة والمتكلّمين الذين اختلطوا في هذه المسألة, ودافع عن "ابن سينا" واتّهامه بأنّه أنكر المعاد الجسماني "حاشاه عن ذلك, إلاّ أنه لم يحقّقه بالبرهان, كما يظهر لمن نظر في إلهيات الشفا". وفي كلامه عن الحاصر للمعاد في الجسماني ذكر أنّ كثيراً من المسلمين ينكرون عالم العقول, وعالم المفارقات العقليّة مطلقاً حتى النّفوس المجرّدة, ويقولون إن الإنسان هو هذه البنية المعروفة, والرّوح والنّفس ليستا غيرها, فالقيامة عندهم إعادة لهذه بعينها. قال في الشرح:



"إنّه نقصٌ وقصور, أمّا عقلاً فلا يخفى, وأمّا نقلاً فلقوله تعال: {ورضوان من الله أكبر}. وقول أمير المؤمنين عليه السلام: ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّنتك, بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".



وقوله عليه السلام "فهبني صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك"[28].



خلاصة



بهذه القراءة السريعة لحضور وتأثير نصّ الإمام علي (ع) في النموذجين النقلي والعقلي نعود لإثبات ما ذكرناه, وتلخيصه بأن الإمام عليه السلام كان في المجتمع الإسلامي علامة فارقة شغلت التفكير العقائدي بشكل عام فألّهه البعض, ورفضه البعض, وقبله آخرون كلٌّ على طريقته. وأمّا عند خصوص الشّيعة فقد ساهم نصّ الإمام في تقريب المسافة بين الفلاسفة والمتكلّمين حيث كان مورد استدلال, وأنّ الإمام (ع) قد فتح أبواب الكلام من داخل النّص الديني وأعطى بذلك, من جملة ما أعطاه للّغة العربية, فرصة إظهار المعاني الفلسفية الدّقيقة, في الوقت الذي كانت فيه, لولا القرآن الكريم, لغة مباشرة بسبب تخلّف القوم عن استعمالها, إلى أن جاء القرآن الكريم بها فأحياها, فيما رأيُ العلاّمة "الطباطبائي": "إنّ المقاصد الفلسفية, لا تفي بها الألفاظ –في اللغة العربية- بمعانيها الشائعة, واسعمالاتها المتعارفة, إلا بعد تجريدها –على نحوٍ ما- عن غواشي المادّة, وشوائب الخصوصيّات"[29].



فمن ذلك قوله (ع): "منعتها "منذ" القدمة, وحمتها "قد" الأزلية, وجنبتها "لولا" التكملة".



وقوله (ع): "إن قيل كان, فعلى تأويل الأزليّة, وإن قيل لم يزل فعلى تأويل نفي العدم".



وقوله عليه السلام: "واحد لا من عدد, دائم لا بأمد".



ومنها "الأين", و"الحقيقة", و"القوة", و"الاستعداد", و"الكيف", و"الكون", و"العدم", و"اللطف" وما إلى ذلك.



ونتبرّك في آخر هذه المقالة بنقل بعض كلامه (ع) مقسماً على أصول الدين الخمسة: التوحيد, العدل, النبوّة, الإمامة والمعاد, كما صنّفهاالمسلمون الشّيعة, مع الإشارة إلى أنّ بعضهم أدخلَ العدل في مذهب التّوحيد عند الكلام على صفاته تعالى, وأّن من ميّزه نظر إلى ما يفترق به المذهب عن المذاهب الأخرى, وخصوصاً رؤية المعتزلة والأشاعرة للعدل[30].



وكذلك يرى بعض علماء الشيعة ضمّ مبحث الإمامة إلى مبحث النبوّة. بل إنَ الشّهيد "مطهّري" يرى أنّهما (العدل والإمامة) ليسا من مقاصد الإسلام التي جاء بها الرسول محمد(ص) ودعا الناس إليها وترك ما كانوا عليه في الجاهلية. بل يكتفي هنا بالإيمان بالتوحيد والنبوّة, والنبوّة الخاصّة بسيدنا محمد (ص) والمعاد[31].



فمن كلامه (ع) في التوحيد: " وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ: الاْوَّلُ لاَ شَيْءَ قَبْلَهُ، وَالآخِرُ لاَ غَايَةَ لَهُ، لاَ تَقَعُ الاْوْهَامُ لَهُ عَلى صِفَة، وَلاَ تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّة، وَلاَ تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّبْعِيضُ، وَلاَ تُحِيطُ بِهِ الْقُلُوبُ والاْبْصَارُ"[32].



ومن كلامه (ع) في العدل: "وأيم الله ، ما كان قومٌ قط في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها ، لأنّ الله تعالى ليس بظلاّم للعبيد"[33].



ومن كلامه (ع) في بعثة الأنبياء ومقاصدها: "بَعَثَ الله الجنّ والإنس رسله[34], وواتر إليهم أنبياءه, ليستأدوهم ميثاق فطرته, ويذكروهم منسيَّ نعمته, ويحتجّوا عليهم بالتّبليغ, ويثيروا لهم دفائن العقول, ويروهم آيات المقدرة"[35].



وفي النّبوة الخاصّة لسيدنا محمد (ص): "أرسله بحجة كافية, وموعظة شافية, ودعوة متلافية, أظهر به الشرائع المجهولة, وقمع به البدع المدخولة, وبيَّنَ به الأحكام المفصولة"[36].



وفي الإمامة: "إنّ الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم, لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم".



ومن كلامه (ع) في المعاد: "ذلك يومٌ يجمع الله فيه الأوّلين والأخيرين لنقاش الحساب, وجزاء الأعمال, خضوعاً, قياماً, قد ألجمهم العرق, ورجفت بهم الأرض, فأحسنهم حالاً من وجد لقدميه موضعاً, ولنفسه متّسعاً"[37].



نشر في مجلة المنطلق العدد 75 / 76 - شعبان , رمضان 1411 هجرية = شباط , آذار 1990 م.















[1] راجع العلاَّمة الطباطبائي : الشيعة في الإسلام والشهيد مطهري : في رحاب نهج البلاغة





[2] الفارابي : إحصاء العلوم , تحقيق عثمان أمين , ص 69 – 70





[3] الإيجي : المواقف في علم الكلام ص16 .





[4] الغزالي : المنقذ من الضلال , ص 6 – 7





[5] المطهري :





[6] الآلوسي : دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي ص 59 .





[7] الشيخ عبدالله نعمة : فلاسفة الشيعة ص 17 .





.[8] البرهان العقلي





.[9] راجع السيد حسن الصدر : تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ص 353





.[10] إبن خلدون : المقدمة , الباب الرابع من الفصل العاشر في تقسيم العلوم





[11] العلاَّمة الطباطبائي : الشيعة في الإسلام والشهيد مطهري : في رحاب نهج البلاغة





.[12] نهج البلاغة : الكتاب 31





.[13] نهج البلاغة : قصار الحكم :31





[14] أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي , ابو منصور , لم يعرف تاريخ ولادته او وفاته ولكن يستقرب ان وفاته كانت حوالي سنة 620 ه . من أجلاء العلماء ومشاهير الفضلاء له كتب في كثير من العلوم الإسلامية منها : الكافي من فقه الشيعة ومفاخرة الطالبية وكتاب الإحتجاج طبع 1966 مع تعليقات السيد محمد باقر الخرسان , مطابع النعمان , النجف الأشرف .





[15] المُلاَّ هادي بن مهدي السبزواري , فقيه إمامي, نعته صاحب الذريعة بالفيلسوف المتأله . له شرح اللآلئ المنتظمة في المنطق والجبر والإختيار زحاشية على الشواهد الربووبية وحاشية على المبدأ والمعاد وحاشية على الأسفار وأسرار الحكمة للشيرازي. والمنظومة المذكورة مع شرحها طبعت بالطباعة الحجرية سنة 1298 ه في طهران.





[16] الإحتجاج : ص 294 – 298 .





[17] من مقدمة الخطبة الأولى : نهج البلاغة .





[18] الإحتجاج : ص 308 .





[19] م . ن : ص 310 .





[20] م . ن : ص 313 .





[21] السبزواري : شرح المنظومة ص82 – 83 .





[22] م . ن ص 83 .





[23] م . ن ص 83 .





[24] م . ن ص 182 .





[25] م . ن ص 190 .





[26] م . ن ص 336 .





[27] م. ن ص 339 .





[28] م .ن ص340 .





[29] العلاَّمة الطباطبائي : علي والفلسفة الإلهية ص 79 .





[30] راجع الشهيد مطهري : الكلام ص





[31] م. ن ص





[32] نهج البلاغة تحقيق الشيخ صبحي الصالح , الخطبة 85 .





[33] م . ن ص257 .





[34] م .ن ص 269 .





[35] م . ن ص43 .





[36] م .ن ص 230 .





[37] م . ن ص 147 – 148 .

الثلاثاء، 7 أغسطس 2012

لمحات من حياة فقيد الفكر الاسلامي المستنير سمير سليمان



لمحات من حياة فقيد الفكر الاسلامي المستنير د. سمير سليمان

"يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله"



غيّب الموت منذ أكثر من أسبوع، رمزاً من رموز العمل الإسلامي الوسطي والفكر الانساني، وبذلك يأفل نجم من نجوم الأصالة من سماء العالم الإسلامي، إنّه المفكر اللّبناني الدكتور سمير سليمان الذي وافاه القدر يوم أول رمضان الموافق لـ 20 جويلية 2012 لينضم بدوره إلى قافلة الراحلين من علماء الأمة ورجالاتها العاملين الذين تركوا فراغاً كبيراً يصعب ملؤه في هذه الظروف العصيبة التي تداعت فيها قوى الاستكبار وخادمتها الوفية، القوى الغثائيّة التغريبيّة، على محاربة الخير والخيِّرين في أمتنا، واستئصال شأفتهما ‍‍‍من أرض الاسلام!؟

وجاء قدر الله ليرحل دون أن أراه منذ أشهر، وهو الذي كان يحلم بنهضة العالم الإسلامي برمّته. وهذه النهضة لفي حاجة ماسة اليوم قبل غد لجيل بفكر وسطيّ كفكر الدكتور سمير، لترشيد ونصرة بعضها وتقليم أظافر البعض الأخر، وهو الذي عاش في الغرب، في فرنسا تحديدا، ويعرف معرفة الطبيب المختص، أطماع بعض الدول الاستكبارية ويفقه كذلك بعض الفهومات الخاطئة المترسّبة في أذهان بعض المنتسبين للحركة الإسلامية بشقّيْها الشّيعي والسّنّي، لكنّه يعي تماما أيضا كسفير "مفوّض فوق العادة" للصحوة الاسلامية في أوروبا وهمزة وصل بين المشرق والمغرب، أنّ الطريق في هذه المرحلة تحديداً لا زال متعرّج المسالك، ونور النّفق لا يزال بعيداً، لكن رغم ذلك يبقى باب الدعوة في الغرب جزءا من أمّة الدعوة يحتاج إلى أنوار فقه جديد تتضافر فيه جهود واجتهادات مختلف علماء الأمّة من شتّى المذاهب الإسلامية ومن كل أصقاع المعمورة، تجديداً لهذا الدين الربّاني العجيب.

معلوم أن أستاذنا سمير سليمان، رغم أنّه من مواليد جنوب لبنان، وتحديداً بتاريخ 13 نوفمبر 1944، قلبه متعلق حتى النّخاع بحب الجزائر وجهاد شعب الجزائر وتاريخ الجزائر- كما أسرّ لي في أحدى المناسبات- بل كان محبّا حتى لشهر مولده "نوفمبر"، لأنّه يعرف قيمة فاتح نوفمبرعند شعب الجزائر، حيث يحفظ بعض أشعار شاعر الثورة المرحوم مفدي زكريا، خاصة منها ملحمة نوفمبر التي يقول عنها " هذه الأبيات يجب أن يحفظها كل عربي أصيل عن ظهر قلب"، و ردّد معي منشداً:

هذا (نوفمبر) قم وحـيّ المدفعـا *** واذكر جهادك والسنين الأربعـا
واقـرأ كتابـك للأنـام مفصّـلا *** تقرأ به الدنيا الحديـث الأروعـا
إنّ الجزائـر قطـعـة قدسـيـّة *** في الكون لحّنها الرصاص ووقعا
وقصـيـدة أزلـيـّة أبيـاتـهـا *** حمراء كان لها (نفمبـر) مطلعـا
نظمت قوافيها الجماجم في الوغى *** وسقى النّجيـع رَويَّهـا فتَدفّعـا
غنّى بها حرّ الضميـر فأيقَظـت *** شعبا إلى التحرير شمّر مسرعـا
............... *** ..............

وأراده المستعمـرون عناصـرا *** فأبى مـع التاريـخ أن يتصدّعـا
واستضعفـوه فقـرّروا إذلالـه *** فأبت كرامتـه لـه أن يخضعـا
واستدرجـوه فدبّـروا إدماجـه *** فأبـت عروبتـه لـه أن يُبلعـا
وعـن العقيـدة زوّروا تحريفـه *** فأبى مع الإيمـان أن يتزعزعـا

ولهذا الحب - في نظري- معنى وتفسير لا يغيب على نباهة القارئ الكريم، هو أنّ الدكتور سمير مختصّ في علم الاجتماع الثقافي حيث درّس هذه المادّة في جامعات عدّة وحاضَر فيها في معظم المنابر الفكريّة العالميّة. وقد مكث في فرنسا وتعرّف عن قرب على التاريخ الأسود للمستعمر الفرنسي البغيض الذي اكتوت به الجزائر وأيضاً بلده لبنان ، فتعرّف على مالك بن نبي في لبنان وعايَشَ فكره وتلامذته وتزامل مع أقرب الناس للفيلسوف الإسلامي بعد رحيله في سبعينات القرن الماضي أمثال، العلامة محمد حميدو الله والأستاذ رشيد بن عيسى و نجم الدين حيدر بامات، و بعدهم جيل آخر يتقدّمهم الدكتور مولاي السعيد و غيرهم .. وحتى قبل شهرين من وفاته، التقيته في لبنان وهو عائد من تظاهرة " تلمسان الجزائريّة عاصمة الثقافة الإسلامية"، وقد قدّم ورقة حول "حياة الأمير عبد القادر من خلال التراث اللّبناني" وقد لاقت استحسانا كبيراً بل وإعجابا، لأنّ الرجل كشف صفحات ومحطّات غاية في الأهميّة من حياة الأمير المجاهد القائد والعابد الناسك، وقد أسرّ لي أن بعض منظمي الندوة طلبوا منه تمجيد بعض الأشخاص في السلطة الحاليّة قبل كلمته عن الأمير عبد القادر، فرفض قائلا لهم، أنّه أكاديمي يلزم حدوده ولا يحبّ أن يصنّف سياسياً مع شخص ما أو جهة بعينها على حساب الاخرى .

وقد استضافني قبل ذلك في بيروت منذ أشهر، وأنا عائد من ندوة "التقريب بين المذاهب وحقوق الإنسان" بالعراق الجريح، فحدّثتُه عن العراق ووضعه الأمني المتدهور، وكيف فتّشنا الامريكان في المطار بالكلاب ونحن قادمون من أكثر من أربعين دولة؛ حقوقيون وسياسيون وعلماء وأكاديميون ومناضلون في منظّمات حقوقيّة وإنسانيّة، فتألّم لحال العراق وشعبها ولكنّه أبدى تفاؤلا حذراً برحيل الأمريكان ولو جزئيا، مردّداً قول الشابّي: " إذا الشعب يوما أراد الحياة ، فلا بد أن يستجيب القدر .. ولا بدّ للّيل أن ينجلي و لا بدّ للقيد أن ينكسر"، وقد حرص الدكتور سمير في ذات اليوم أن يزورني ببيروت ليلاً رغم أشغاله الكثيرة وأصرّ أن نتعشّى سواء على ضفاف البحر الابيض المتوسط، في "الروشة" واستقلّينا سيارته الفخمة، فقال لي متبسماً: " لا تنبهر بسيّارتي .. فكلّ اللبنانيين يملكون سيارات فخمة بالقرض البنكي طبعاً، مثل الإيطاليين عندكم في سويسرا"، و أوقف سيارته في مرآب أظنّه بحراسة عسكريّة، و قال لي ضاحكاً: " أنا عضو في نادي السّباحة هنا والّذي يدعى النّادي العسكري، وأسبح كل يوم تقريبا، لذلك تراني في لياقة الشباب".. كما حرص بعد العشاء أن نمرّ على محل مرطبات ببيروت مشهور دولياً وأن نتناول بعض الحلويات وقال لي مازحا:" خذ لك من كل بستان زهرتان، واحدة لك تتناولها الآن والأخرى تأخذها معك لسويسرا.. طبعاً وأنا آكل معك من جميعها"، ثم حدّثني حول مشروع صديقه الأستاذ الجزائري رشيد بن عيسى الذي هو منكبّ حاليّاً حول إنهاء قاموس ضخم بعشر لغات، يثبت فيه المؤلف الأمازيغي الاصل أنّ اللّغة العربية هي قطب رحى كل اللّغات الدوليّة، وتمنّى أن يرى هذا القاموس النور العام المقبل، لكنّ قدر الله أبى غير ذلك .. ثم حمّلني صبيحة سفري مجموعة أعداد من مجلّته قصد توزيعها على بعض الجامعات السويسرية والمثقّفين العرب عموماً، المهتمّين بالحوار بين الثّقافات والتقريب بين المذاهب، قصد استكتابهم مستقبلاً .. بهذا الطّبع المرح تعرّفت على الدكتور سمير، حتى أثناء الجدّ والعمل كان صاحب المهمّات الصّعبة حتى ولو على حسابه، أذكر هذه السنة في نهاية أشغال "مؤتمر التقريب بين المذاهب"، و قد داهمنا الوقت، و لم تُقدَّم كلّ الأوراق رغم تمديد الوقت ليلاً وبدأت بعض التشنّجات بين الوفود، لمّا جاء دوره تنازل عن تقديم ورقته وفضّل الاستماع لأخوين من السودان و تونس، وطلب حتى من رئيس الجلسة حينها العلّامة سماحة الشيخ التسخيري، أن تُعطى لي الكلمة باسم وفود أوروبا إلّا أنّي ذكّرته أنه لا داعي لذلك، لأنّ أحد الإخوة من أمريكا قدّم كلمة شافية كافية عن الجالية المسلمة في الغرب وتكلّم اخ عن ثورة تونس والغرب، لكنّي طلبت منه بحضور أستاذنا الكبير الدكتورعبد الرزاق قسوم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والشيخ المستاوي من علماء تونس أن يحرص كما اتفق مكتب المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية على تكريم بعض رموز التقريب ممّن رحلوا خلال السنة الماضية أمثال العلّامة عبد الرحمان شيبان وزير الشؤون الدينية الأسبق، ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والعضو في الجمعية العمومية للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والدكتور أحمد عبد الرحيم السائح أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر، وبرهان الدين ربّاني الرئيس الأفغاني الأسبق ومحمد الحبيب بلخوجة، أمين عام مجمع الفقه الإسلامي الدولي ومفتي الجمهورية التونسية الأسبق، والعلّامة حجّة الإسلام محمد شراف، من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، رحمهم الله جميعا، وقد تمّ ذلك بحمد الله.

وأخصُّ اليوم أستاذنا الكبير سمير سليمان بهذه الكُلَيْمات، لأن القدر جمعني به في ندوات ودورات سابقة في حوار الاديان والتقريب بين المذاهب الاسلامية وحقوق الانسان. خاصّة لمّا بدأت الكتابة معه بالفرنسية في مجلة" لوديبا" [1] التي يرأس تحريرها، وقد راسلني بأسبوع فقط قبل أن يدخل المستشفى بهذا الوباء الرئوي الخطير المباغت الذي أودى بحياته، يشكرني على مقال لي بالعربيّة في أسبوعيّة البصائر الجزائرية والحياة اللّندنية ويطلب منّي ترجمته للفرنسيّة مذكّرا إياي خاصّة بتزويده بنصّ محاضرة قدمتها في ندوة حوار الاديان حول " الحيوانات في الكتابات المقدسة" مع ملخّص لمداخلات ممثّلي الديانات الأخرى قصد نشرها في العدد 12 من المجلّة، كما يطلب منّي تكليف أحد الزملاء بكتابة قراءة لكتاب جديد للمفكّر السويسري طارق رمضان حول "المسلمون والمواطنة في الغرب"، لأنّ افتتاحيّة العدد تتناول موضوع المواطنة والصّراعات الدوليّة، وهو ذات الموضوع الّذي حضر ندوته في تركيا قبل أسابيع خلت..

و حاليّاّ، فما من شكّ في أنّ رحيل المفكر اللّبناني سمير سليمان يأتي ليعمّق إحساسنا بفداحة الفقدان، فترة قصيرة بعد رحيل الرّكن الفكري الإسلامي الفرنسي الكبير رجاء غارودي، الذي أُحرق ولم يُدفن بجهل من عائلته، وهو من الّذين تأسّف الدكتور سميرعلى حالته محمِّلاً مسؤولية التّقصير مثلي لتلاميذه من أبناء الجالية المسلمة في فرنسا.

بحيث يشكّل فقدانهما خسارة كبرى للمتنوّرين وأهل الحداثة التجديديّة الأصيلة، وهذه الخسارة ستترك فراغاً كبيراً يصعب ملؤه. فقد ترك المرحوم ورشات مفتوحة متنوعة من دراسات وأطروحات ومشاريع فكرية، ومجلّة إسلامية بالفرنسية كان يرأس تحريرها كانت تعمل على رفع لواء الإسلام في أوروبا إلى مرتبة عليا ومشرّفة، ومن آخر المشاريع المفتوحة بيني وبينه إنجاز فيلم، نعم فيلم وثائقي؟ وقصّة الفيلم أنّه، لمّا نشر مقالي بالفرنسيّة في مجلته، العدد قبل الاخير، حول العلّامة الجزائري محمود بوزوزو- رحمه الله -، قال لي "إن هذا الرجل لا يستحق فقط مقالاً ولا حتى أن يضاف لسلسلة روّاد التقريب الذي يصدرها مجمع التقريب" كما اقترحت له منذ أشهر، بل قال لي أنّه مستعدّ أن يبحث مع بعض الفضائيات اللّبنانيّة ويحرّضهم لإنتاج فيلم وثائقي حول الشيخ، كما فعل منذ أشهر مع فيلم الاميرعبد القادر الّذي أنتجته وبثّته قناة المنار الإسلامية، فالشيخ محمود بوزوزو - على حدّ قوله - "من رموز ثورة الجزائر وقادتها، إعلامي لامع عالِم موسوعة من رموز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مؤسس الكشافة الإسلامية في الأربعينيّات من القرن الماضي، وأوّل إمام في سويسرا قبل الستينيّات وأستاذ المترجمين الدوليّيْن بالأمم المتّحدة، وهو أوّل من طلب منه مالك بن نبي ترجمة كتابه الظّاهرة القرآنية، إلّا أنّ ظروف الثّورة حالت دون ذلك فترجم في المشرق.. كيف لا يكرّم هذا العبقري الموسوعة بعمل وثائقي مرئي للأجيال الإسلامية، وهذا من أضعف الإيمان..؟"

فعلاً برحيل الأخ الأستاذ سمير سليمان تكون المكتبة الإسلامية حقّاً قد فقدت رفوفاً كبيرة من كتبها ومجلّاتها ، لكن عزاؤنا فيما قاله شيخنا العلّامة البشير الإبراهيمي - رحمه الله - ، حيث كتب يقول في ذكرى وفاة الزّعيم الرّوحي لحرب التحرير الجزائرية، الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس- رحمه الله- :" يموت العظماء فلا يندثر منهم إلّا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله، و تبقى معانيهم الحيّة في الأرض، قوّة تحرّك، ورابطة تجمع، ونوراً يهدي، وعطراً ينعش، وهذا هو معنى العظمة، وهذا هو معنى كون العظمة خلوداً، فإنّ كلّ ما يخلف العظماء من ميراث، هو أعمال يحتذيها من بعدهم، وأفكار يهتدون بها في الحياة، وآثار مشهودة ينتفعون بها، وأمجاد يعتزّون بها ويفخرون [2].

و رحم الله الشّاعر الحكيم القائل:

المرء بعد الموت أحدوثة … يفنى وتبقى منه آثاره

فأحسن الحالات حال امرئ … تطيب بعد الموت أخباره

لا لشيئ إلّا لأنّ موت العظماء حياة أممهم، فإن في الغربة زادت جلالاّ، فإن كانت نتيجة للظلم زادت جمالاً، فإن كانت في سبيل الوطن كانت جلالاً و جمالاً، فإن صحبها سلب العزّ والملك حلية وكمالاً. عزاء للوطن الإسلامي المفجوع فيك يا علّامة لبنان، وسلوى للقلوب المكلومة بموتك ! وجزاء تلقاه في هذه الدنيا طيب ذكر، وعند ربّنا ثمين ذخر، وهيهات وإخوانك العاملين أن تجزيك الجوازى من هذه الأمّة التي نهجتم لها نهج الكرامة، وشرعتم لها سنن التّضحية، ولقّنتموها هذا الدرس السّامي من الثّبات والإباء والشّمم رغم المحن، وها أنتم اليوم تعلّمونا وأقرانكم الرّاحلين، كيف تموت الأسود جوعاً وظلماً، ولا تطعم الأذى، ولا تردّ القذى، عملاً بقول الأثر الأمازيغي " أنرز ولا نكنو" أي " ننكسر ولا ننحني" الّتي يقابلها باللّسان العربي" تجوع الحرّة ولا تأكل من ثدييها".

في انتظار ذلك نقول لفقيدنا الغالي، نم هادئا، قرير العين .. بل حسبك قول الشّاعر الجزائري الفحل محمد العيد آل خليفة، الذي أنشد يقول يوم رحيل إمامنا، العلّامة عبد الحميد بن باديس:

نم هـادئا فالشّعب بعـدك راشــــد *** يختـط نهجـك في الهـدى ويسير

لا تخش ضيعة ما تركت لنا سـدى *** فالـوارثـون لمــا تركـــت كثير

بدورك أيضا أخي أستاذ سمير نم قرير العين، وسلام عليك في الشهداء والصّدّيقين وحسن أولئك رفيقاً... وسلام عليك في الأوّلين، وسلام عليك في الآخرين، وسلام عليك في المؤمنين العاملين، وسلام عليك في الدّعاة الربّانيّين، وسلام عليك إلى يوم الدّين.. هنيئا لك ذخرك عند الله مما قدّمت يداك من باقيات صالحات، وعزاء لك فيمن كنت تعلّمهم وتواسيهم .. و إلى لقاء في جنّة عرضها السّماوات والأرض أُعدّت للمتقين .. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين والعاقبة للمتّقين ولا عدوان إلّا على الظّالمين، و"إنّا لله وإنّا إليه راجعون". وصدق محيي الموتى القائل:" الّذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين، يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعلمون" (النّحل :32).

مع خالص مودّتي

أخوك الصغير

محمد مصطفى حابس

كاتب جزائري مقيم بسويسرا

-------------------------------------------------------

[1]-

Le Débat.

[2] - كتاب عيون البصائر، المجلد الثاني من آثار البشير الإبراهيمي ، صفحة 673 ، دار الغرب الاسلامي، بيروت



وجهات نظر | صراعات أهل السُنّة | د. السيد ولد أباه

http://www.alittihad.ae/wajhatauthor.php?AuthorID=452&id=51886

السبت، 4 أغسطس 2012

:: شبكة الإنترنت للإعلام العربي - أمين ::رمضانيات المذهب الثالث في (بورما)



:: شبكة الإنترنت للإعلام العربي - أمين ::




رمضانيات المذهب الثالث في (بورما)

بقلم: أحمد إبراهيم




أحال القتل والفتك وسفك الدماء في سورية، دون رفع الستار
الكامل (كما يجب) عن المذهب الثالث في (بورما)، وبالأخص عن ولاية (راخين) الواقعة
غرب (ميانمار)، بغالبية العظمى للبوذيين (خمسين مليون) ولا بأقلية السواد
الأعظم للمسلمين (عشرة ملايين) .. لأن المذاهب ونسيجها بين الغوغائيين ومتخلّفي العقول، لايختلف غزله وحياكته عما يُحاك للجنس الثالث بملاهي وأندية الشواذ، ينتمي للجنس الأول أولا،
ثم للثاني ثانيا، وهو يبقى مترنّحا يبحث عن جنس ثالث ورابع وخامس الى ما لانهاية، لأنه
لا يعرف جنسه فلا جنس له، ولا يعرف مذهبه فلا مذهب له!

التاريخ يعيد نفس مسرحية الحرب العراقية الإيرانية، كان يتم فيها قتل المسلمين بإسم الإسلام بكل فخر وكبرياء، يفتخر كل طرف بشموخ وغرور، إرتفاع عدد القتلى لدى الطرف الآخر على أنه نصرٌ وفتحٌ وإنجاز .. وكنا نغضّ فيها السمع والبصر والفؤاد عن بنادق (الصّرب) وحمم نيرانهم تصبُّ فوق رؤوس المسلمين في بوسنة وهرسك .. الأسطوانة ذاتها اليوم بذبذباتها على سورية: ( سيطرنا على دمشق..! وإنسحبنا من دمشق..!)، والقاتل والمقتول كلاهما يرددان (الله أكبر).! والضحية الشعب السوري على حساب العدادات الإلكترونية لفضائيات مشبوهة، تتنافس في تقديم أكبر أعداد للقتلى والجرحى لهذا الشعب المظلوم من دمشق الى درعا، كما كان لذلك الشعب المظلوم من بصرة لبغداد.!

(سورية سورية..!) فلم نسمع الا عابرا من منظمة العفو الدولية، وبعض فضائيات أجنبية نعتبرها معادية، أن اخوةٌ لنا وأخوات في الدين والعقيدة ببورما (ميانمار)، يصومون صيامنا يقيمون قيامنا يصلون صلاتنا ويتلون كتابنا .. إلا انهم في ليال رمضانية هذا العام، وفي حين نحن نستلذّ بما لذ وطاب وإزدان بخيمنا الرمضانية، وهم يُذبحون بالسكاكين في حفلات موت جماعية، ويُحرقون بمحارق النازية (البرمية)، تهدم البيوت عليهم، بل وقرى بأكملها أحرقت أو دُمّرت فوق رؤوسهم وأُغتُصبت نساؤهم.!

فمنذ ان سُيّر قطار الموت من إقليم (أراكان) ذات الأغلبية المسلمة، وبالتحديد من محطته الأولى بمدينة (رانجون)، ترصّدت منها مجموعة بوذية للعائدين من العمرة (عشرة من وعّاظ وائمة المساجد) ضربهتم حتى الموت، بتهمة مقتل شابة بوذية، تهمة ملفّقة بتواطئ علنى ومكشوف مع رجال الامن والنظام العسكري الحاكم .. هذا القطار لم يتوقف لحد الآن، رغم تجاوز عدد قتلى المسلمين فيه سبعين ألفا في سبعة أيام.!

البوذيةُ التي لامستها يوما لم ترعبني، معايشتي للمذهب البوذي عن قرب كان في تايلندا عام 1987، دينٌ يطلب الرفق بالحيوان قبل الانسان، رجال دينهم دراويش يمشون من العواصم والمدن إلى القُرى والأرياف بملابس متواضعة حاملين اكياس الطعام والشراب للفقراء الجياع .. لو إفترضناها البوذية المذهب الأول في برما والإسلام المذهب الثاني، فإن الطابور الثالث في شوارع ميانمار لايبدو بالفقه البوذي، إنه طابورٌ ثالثٌ يصل عادة بلا تأشيرات وجوازت سفر أينما وحيثما نزاعٌ بين أبناء آدم وحواء على كوكب الأرض، يصله بالفأس والساطور والسكاكين، وبالفقه والتشريع الغوغائي المؤسس للمذهب الثالث.

المساحة الشاسعة بين إبنى آدم (هابيل وقابيل) ليتجها بالتعايش السلمي نحو الأطراف الأربعة للبناء والتعمير في الكون كله ولو بمذهبين، كان قد قطع عليهما مذهبٌ ثالثٌ طردهما من الجنة ثم وصل قبلهما على الكون، يراهما ولا يرونه، فكانت إراقة القطرة الأولى لدم الإنسان على يد أخيه الإنسان، هذا المذهب الثالث هو ذاته وصل قبلنا العراق وسورية وباكستان وافغانستان وعواصم أخرى، ويصل حيثما أراد الإنسان معايشة أخيه الإنسان بسلام.

أفشلوا على هذا المذهب خلسته الى مليار مسلم يتفرجوا على عشرة ملايين مسلم في برما وهم يُقتلون.! إنهم مسلمون بأصول من الجزيرة العربية، هاجرت إلى الصين عبر أندونيسيا تجارا وملاّحون حاملين راية السلام الإسلامي، أوصلت كلمة (لا إله الا الله) الى أقصى شرق الكرة الأرضية، فأهتدت تلك الزواحف الآسيوية بالدين الإسلامي الحنيف (الدين المعاملة) .. عشرة ملايين من اصل خمسين مليون سكان برما مسلمون، لكنهم الآن تحت حمم النيران والباردو والسكاكين.!

(برما) تلك المنطقة المخيفة، زرتُ أطرافها ولم أدخلها، قبل عشرين عام كنت شمال الصين وجنوب خليج البنغال وتايلند، وقبل خمس سنوات كنت غربها بنغلاديش، رغم اني تعلمت أيام مراهقتي فنون لعبة الكراتية على الطريقة البرمية (باندو) وعلى يد مدرب من برما إسمه (طائي) والذي شجعني الدخول في فنون قتال برما (باندو)، دون الدخول في الحدود الجغرافية لبرما .. وأكّد لي "مسترطائي" ان المسلمين هناك فريسةً الفقر والقمع والتهجير من قبل الحكومة التي تمارس أبشع صور الاضطهاد الديني والعرقي ضدهم، باعتقالهم وتعذيبهم وإجبارهم على أعمال شاقة دون أجر بالطرق الوعرة والخنادق الجبلية، بالإضافة إلى مصادرة أوقاف المسلمين وأراضيهم الزراعية. ومنعهم من الاستيراد والتصدير أو ممارسة الأعمال التجارية .. ووضع العقبات أمام دراسة أبناء المسلمين علوم الشريعة، ومنعهم من الزواج، وإلزامهم بتحديد النسل وغيرها من سياسات ممنهجة.

هذا المذهب الثالث يكمُنُ في المنهجية البرمية منذ عقود، لكن ولماذا هذا التحول المفاجئ من التستّر إلى التشهير؟ تمزيق وحدتنا إسلاميا وعربيا هو السبب؟ أم أن الربيع العربي اينما حلّ بالغليان، حلّ بعده الفوضى والعصيان؟ أم لحاجة في نفس يعقوب، لم يكشفوها أخوة يوسف بعد بالجهروالكتمان ولا بالقصر والميدان.؟
* كاتب إماراتي. - ui@eim.ae

صحيفة عكاظ - حكايات السنة والشيعة!

صحيفة عكاظ - حكايات السنة والشيعة!

حكايات السنة والشيعة!
خلف الحربي
ياااه.. مضى زمن لا بأس به قبل أن نسمع أحدا يدعو للتسامح بين السنة والشيعة!، فالكل يريد أن يلغي الآخر ويمحوه أو يشطبه أو حتى يفنيه إن لزم الأمر!، وبالأمس بدا حديث سمو رئيس الحرس الوطني الأمير متعب بن عبدالله حول وجود من يحاول أن يشعل نار الفتنة بين المواطنين سنة وشيعة وتأكيده على أن المعيار الحقيقي للولاء هو حب الوطن، وكأنه يأتي من عالم آخر.. عالم العقل والمنطق والمصلحة الوطنية والقيم الإنسانية الذي اختفى في مناخ التعصب الطائفي والتكفير المتبادل واحتكار الوطنية ومحاولة إسقاط الصراعات الطائفية في الخارج على الداخل.
هل بقي حقا بيننا (سنة وشيعة) من لازال يؤمن بأننا أخوة في الله وشركاء في الوطن، أم أن هذه الفئة معرضة للانقراض؟!، هل بقي بيننا من يملك القدرة على تأمل الحرائق الطائفية في العراق وباكستان ولبنان وبعض دول الخليج ويستلهم العبر والدروس أم أن العقلاء أصبحوا يخافون من صراخ تجار الطائفية الذين يعتبرون التمسك بالوحدة الوطنية تخاذلا وانكسارا؟!.
منذ سنوات طويلة وأنتم تتابعون نشرات الأخبار، تشاهدون صور مسجد للسنة فجره متطرفون شيعة في باكستان ردا على تفجير مسجد للشيعة فجره متطرفون سنة قبل يومين، هل يعجبكم هذا المشهد السياحي؟.. أن يذهب أحدكم للمسجد في شهر رمضان مع أولاده ولا يعود إلى البيت إلا من خلال (خبر عاجل)!.
أسهل شيء بالنسبة للسني أو الشيعي أن يشتم الطائفة الأخرى ويحرض ضدها، هذا عمل سهل جدا لا يكلف جهدا ولا مالا، ولكن العمل الصعب هو الحفاظ على وحدتنا الوطنية في محيط إقليمي تسوده الصراعات الدامية، فأغلب جيراننا اليوم يصبحون على عبوة ناسفة ويمسون على قذيفة طائشة!.. لقد ترك الآباء لنا وطنا آمنا نسير فيه من حدود الأردن إلى حدود اليمن دون أن نشعر بالخوف أو الوحشة، فأي وطن ذلك الذي سوف نورثه لأبنائنا؟!.
هذه الحقبة هي حقبة الصراع الكبير بين السنة والشيعة، وثمة قوى دولية لا حصر لها سوف تستفيد من هذا الصراع الدموي، إنه مفترق طرق تاريخي تتوقف كل القوى الكبرى عند إشارته الضوئية الحمراء كي تتوزع الغنائم، وثمة دول عربية قليلة سوف تنجو من هذا الحريق الطائفي، وهذا يتوقف على حكمة الناس في أي دولة.. فنقل صراعات الخارج إلى الداخل هو الذي (خرب بيت) لبنان والعراق!.
اللهم احفظ هذا الوطن المبارك وأهله الطيبين (سنة وشيعة) ممن يزايدون على الجميع في حب الوطن، بينما هم يدقون الوتد في منتصف السفينة!.

تجريم الحديث الطائفي - عبد الرحمن الراشد

تجريم الحديث الطائفي - عبد الرحمن الراشد

دخل أمير الكويت أمس على خط التلاسن الطائفي بين بعض المتطرفين السنة والشيعة في موقع التواصل «تويتر». أمر بملاحقة ومحاسبة الفاعلين، وأدان ما وصفه بضرب الوحدة الوطنية وإشاعة روح الفتنة. وسبق للزميل الأستاذ محمد آل الشيخ أن هاجم بشجاعة إثارة النعرات من قبل بعض المتطرفين بين السنة والشيعة في السعودية. ولا يحتاج الأمر إلى التوسع في الحديث عن الطوفان الطائفي الذي غمر الساحة، بجهلائها ومثقفيها، فما الذي حدث وجعل القضية القديمة مشكلة اليوم؟
الخلافات الدينية والطائفية، والخلافات داخل تفرعات المذهب الواحد، دائما كانت موجودة بيننا على مر التاريخ، وستستمر إلى قرون طويلة. فهي جزء من طبيعة ثقافة المعتقدات، بل ومن أسس الإيمان في كل الأديان. تسببت في حروب طويلة بين المسلمين، وفي الأديان الأخرى أيضا، كما كانت سببا يقصد به إشعال حروب سياسية وحربية.
إذن، لماذا صرنا نصاب بالحساسية عندما يتجادل المختلفون؟.. حتى إن أمير الكويت يتدخل بسبب تغريدة/ تويتة، من شخص نكرة تعرض فيها لسبطي الرسول (صلى الله عليه وسلم) الحسن والحسين (رضي الله عنهما)، حتى تعمل حكومة الكويت على استصدار قانون يجرم الكراهية، والذي يهدف لوقف التقاذف بين السنة والشيعة، وكذلك وقف النعرات القبلية!
السبب ليس وجود خطاب الكراهية، بل لأن الخطاب تضخم وصار خطرا.. صار شعبيا وعاما ومنتشرا.. ومن لا يستعجل ويضع الغطاء على القدر الطائفي فإنه منفجر لا محالة. لم يحدث في التاريخ القديم، حتى عندما كانت الحروب الدينية قائمة، أن تداول الناس هذا الكم من السب والإساءات، حتى أوغرت الصدور. وقد يرى البعض أنها حالة طبيعية وامتداد للجدل السياسي مع إيران مثلا. لكن ما الذي يمكن فعله غدا بعد أن تهدأ الأسباب السياسية التي سهلت لمثيري الفتنة بثها، وجعلت الحكومات تغض الطرف عنها لأنها تخدم الحالة السياسية القائمة؟ لن يكون سهلا أبدا إطفاء التعصب ولا وقف المتعصبين. الخلاف التاريخي والديني بين السنة والشيعة عمره عمر الإسلام تقريبا، أربعة عشر قرنا، ولم يمكن حسمه، ولن يمكن حسمه، وبالتالي ليس على المؤمنين من الطرفين إلا إدراك هذه الحقيقة البسيطة، وإدراك ضرورة التعايش.
والذي يجعل الاختلاف الطائفي الكلامي يرقى اليوم إلى خطر رفع السلاح، ويستوجب إقرار تشريعات تعاقب عليها وسائل التواصل الإعلامية والاجتماعية التقنية، أنه صار خارج السيطرة. في السابق كان الحديث لا يتعدى جدران المسجد أو المجلس، اليوم، يتقاذف الشتائم ويطالعها وربما يتفاعل معها مئات الآلاف من الناس في داخل المجتمع الواحد!
ولأنني إعلامي، فبالتأكيد لست مع أي تشريع يحد من النقاش، لكن ما نراه اليوم هو حقا نذر حرب مقبلة في مجتمعاتنا التي يفترض أن تنخرط في دولة عصرية تحفظ لكل شخص حقه في التدين، وتحول بينه وبين المس بمعتقدات الآخرين. فالجدل الطائفي والقبلي أسهل وسيلة لإشعال الحروب، ومن دون وضع قواعد للعلاقة بين فئات المجتمع فلا يتعدى فريق على آخر، تكون الدولة طرفا ويكون البلد في خطر. والذين يشعلون الحروب بعضهم يفعلون ذلك بحثا عن الشعبية عند العامة الذين تأخذهم غيرتهم على معتقداتهم إلى ما لا حد له.

الشيعة والسنّة: الثنائية الزائفة | الأخبار



الشيعة والسنّة: الثنائية الزائفة | الأخبار


الشيعة والسنّة: الثنائية الزائفة 



سيف دعنا


خلال الاحتفال بذكرى حرب تموز مساء 18 تموز الماضي (أرشيف ــ مروان بوحيدر)

«نحن مع تركيا السنيّة اذا كانت تريد أن تدافع عن فلسطين وعن غزة وعن المسجد الأقصى قبل أن نكون مع ايران الشيعية، بل أكثر من ذلك، نحن مع فنزويلا الشيوعية التي تقف الى جانب فلسطين ولبنان»
السيد حسن نصر الله (يوم الشهيد 11 شباط 2009)

يذكر محمود اسماعيل في «الحركات السرية في الإسلام» أنّه خلال الفترة الأموية تشكلت أكثر من عشرين فرقة متناحرة من الخوارج، وكل منها يكفر من عداه، كالأزارقة والنجدات ذوي النزعات المتطرفة والأباضية والصفرية الأكثر اعتدالاً (ص: 22). هذا عدا ذكره لفرق اخرى كالقرامطة، الذين نالهم من التشويه والافتراء، ربما، ما لم ينل غيرهم، والمُرجئة (بضم الميم)، وهو اسم أطلقه على هذه الفرقة نافع بن الأزرق، أكثر قادة الخوارج تطرفاً ويسارية بمقاييس أيامنا، لترددهم وتريثهم (إرجائهم) في اتخاذ الموقف حتى تتبين لهم نتائج الصراع وميلان كفة الصراع ــ سماهم الزبيدي في «تاج العروس» أيضاً «بالحشوية»، وهم من يكتفون بظاهر النصوص ويرددون كلاماً لا يفهمونه ــ فلقد كانوا أتْباع كل من غَلَب، وحتى انقسموا أحياناً حسب قراءتهم الانتهازية للواقع السياسي (كانوا من أتباع الامويين في البداية لكنّهم لم يعلنوا تأييدهم لهم لأنّ الموازين كانت تميل لصالح علي حينها).

ويذكر فهمي جدعان في «المحنة» انّه أثناء خلافة المأمون وُجِد، على الأقل، تياران سياسيان في قلب الاعتزال، «التيار المثالي الاحتجاجي، والتيار الواقعي العملي» (ص:322)، والفروق بينها تصل حد التناقض أحياناً، بين من يرفض منهم حتى فكرة الدولة ويقترب كثيراً من أن يكونوا كفوضويي هذه الأيام في نظرتهم للدولة (كبعض المعتزلة الصوفية) وبين من لا يرى شراً في العمل لدى السلطة (كبعض أتباع التيار الواقعي العملي) الذين وجد بعضهم تبريراً للعمل عند المأمون ــ وهذا طبعا يؤكد خطأ الصورة الشائعة عن سيطرة المعتزلة، أو تأثيرهم الكبير، على الحكم في عهود المأمون والمعتصم والواثق والتي يبيّن جدعان بمهارة عدم صحتها قولاً وفعلاً.
لكن ربما يكون كتاب الشهرستاني «الملل والنحل» هو الأكثر توصيفاً وسرداً لتعقيد الحالة الدينية والفكرية في التاريخ العربي ــ الإسلامي وازدحامها الشديد بالعديد من الحركات والتيارات والفرق والمذاهب والتوجهات، وأيضاً الملل غير الإسلامية (كالمسيحية واليهودية وفرقهما) وأهل الأهواء (أصحاب الآراء كالفلاسفة، والدهرية، والصابئة)، والنِحَل أيضاً (من الدعاوي والديانات).

في تعقيد المشهد الإسلامي

الصورة التي يرسمها المؤرخون للمشهد الإسلامي لا تتضمن فقط حقيقة التنوع والاختلاف والازدحام الشديد للتيارات والفرق والآراء ونقض التبسيط والسطحية، بل وأيضاً التأكيد أنّ طابعها وجذورها كانت سياسية واجتماعية بامتياز، لا فقهية. أكثر من ذلك، يمكن أن نرى بوضوح في بعض الحالات كيف كانت (ولا تزال) الحركات السياسة والاجتماعية تستولد فقهها، لا العكس كما قد يظن البعض، ويقع في هذا السياق، ويفسره، مثلاً، ما عرف «بفقه الأولويات» الذي قَدَّمَ «وحدة الامة» على شرعية النظام في انحيازه لمعاوية في أعقاب الفتنة الكبرى لاحقاً ــ أي لو انتصر معسكر علي لانحازوا اليه أيضاً (مثلاً ،ابن تيمية، منهاج السنّة، ج 4). وهذا التاريخ، او الرواية للتاريخ، تؤكده القاعدة السوسيولوجية التي تعتبر أنّ التحوّلات الثقافية الكبرى تاريخياً تُنتج دوماً نظماً ايمانية (وفكرية) جديدة أو تعيد جذرياً إنتاج النظم القائمة، وهو ما يفسر التطور التاريخي للأديان والأفكار (أنظر مثلاً، محمد بامية: الأصل الاجتماعي للاسلام).
والقراءة عن المعتزلة تحديداً (وبعض فرق الخوارج أيضاً) وعن مناظراتهم وأدائهم الفذ توفر «نموذجاً مثالياً» لجدل الواقع والفكر (توسع الدولة الهائل في أعقاب وفاة الرسول وما ترتب عليه من تبعات في كل المجالات تقريباً، والتطور الفكري المرافق، وتفاعلهما). كانت مناظراتهم وأفكارهم، كما أشار جدعان في «المحنة،» تمثل «روحاً جديدة لمعطيات ثقافية جديدة،» وأيضاً، وهو المهم والذي يشير الى فكرة «التقهقر» عند الجاحظ التي سأذكرها لاحقاً أنّ: «الاعتزال لم يكن في حقيقته إلا استجابة عملية ارتكاسية لأوضاع اجتماعية ــ ثقافية ــ تاريخية محددة» (ص:20-21). هناك، أيضاً، في هذه الصورة التاريخية نقض للتشويه الذي تتضمنه الصورة الراهنة السائدة لدى بعض الحركات والقوى الإسلامية الراهنة لهذه الفرق والتيارات وتاريخهم (المعتزلة والقرامطة مثلاً) لدرجة استخدام أسماء هذه الحركات كتوصيفات سلبية وشتيمة أحياناً. كذلك، إنّ كل هذا التاريخ، والتأريخ، يتنافى كلياً مع الصورة السائدة (شعبياً أحياناً، وفي بعض الحلقات الاكاديمية أيضاً) عن الثنائية القطبية للصراع في التاريخ العربي ــ الإسلامي (بين السنة والشيعة) التي هي في جانب منها ليست أكثر من إعادة تركيب للتاريخ وفق تصور راهن خاطئ لصراع سياسي معاصر (تصور خاطئ لأنّه سطحي وتبسيطي ويتبع ظاهرية الصراع المذهبية، لا جوهره وجذوره السياسية والاجتماعية، فيخلط بين القومي والمذهبي والسياسي والديني ــ وأيضاً يتجاهل وجود الكثير، وربما الغالبية، من الآخرين).
الأهم، هذا التاريخ يؤكد: أولاً، أنّه ليس للطوائف والمذاهب (وحتى الفرق) ماهية ثابتة غير متغيّرة في الزمان والمكان، بل على العكس، هي مرنة ومتغيرة وفق حركة واقعها المادي وتأثيرات الزمان والمكان ولا تحتاج إلى أن تكون ابن خلدون لترى ذلك في التاريخ العربي. وثانياً، لأن «النموذج المثالي» المتخيل والقطعي للمذهب هو في حقيقته تخيل، لا واقع، ولا يمكن ان يكون في واقعه بذات الطريقة الموجودة على الورق أو المتخيلة في الذهن. وثالثاً، لأن الفروق بين المذاهب (السنة والشيعة مثلاً) أقل بكثير من الفروق داخل المذاهب.
ربما يكون التعقيد والتنوع الشديد للمشهد الإسلامي الراهن وازدحامه بالعديد من القوى والحركات السياسية والدينية هو أحد الأدلة أيضاً على إشكاليات منهجية تصنيف القوى الأسلامية أو فقر المنهج التصنيفي السائد (الطائفي والمذهبي والثنائي ــ القطبية في أغلب الأحيان). احدى الإضافات الأخيرة لهذا المشهد المعقد ما شهدته الخريطة السلفية من تحول مع صعود «السلفية السياسية»، كما يسميها البعض، والتي تطورت عقب الثورة المصرية لتضاف الى أنواع السلفية الإسلامية المتعددة (أنظر، مثلاً، أشرف الشريف، تحوّلات السلفيين، جدلية). والسلفية، كما تدل الفكرة السالفة على تحولها وحقيقة أنواعها المتعددة، هي في الحقيقة تصور راهن ومعاصر للإسلام ولتاريخه بامتياز، بغض النظر عن التسمية وما توحيه للسامع أو القارئ، لأنّ غير ذلك هو بكل بساطة تجاهل وإنكار لكل التحوّلات التاريخية منذ القرن السابع من الاقتصاد الى السياسة والثقافة، ومن الاجتماع الى اللغة والفكر (تحتاج إلى أن تكون سوبرمان يعيش في الفراغ منذ القرن السابع حتى تكون سلفياً وفق ما توحيه التسمية). لكن المهم ليس هذه السطحية والتبسيطية وليس اعتبارها مجرد خلل معرفي أو فشل في قراءة التاريخ، بل إمكانية ان تكون إعادة تدويرها في سياق الاشتباك السياسي (الذي يصر البعض على مذهبته) قاتلة، فالصراعات الأهلية تستند في شق منها الى تخيل مُشَوّهْ، أو وعي زائف، للتناقضات الاجتماعية والسياسية.
لكن هناك من يعيد إنتاج البضاعة الغربية والأكاديمية الفاسدة، ويُسَوّق أنّ الشيعة والسنة والمسيحيين في بلادنا هم في حقيقة الأمر تيارات سياسية، لا مكونات اجتماعية، تتشكل وتتحدد مواقف أعضائها السياسية تبعاً لاصولهم المذهبية المُعْطى بالولادة عادة (رغم إمكانية تغييرها قليلة الحدوث) وبغض النظر عن أي موقع طبقي، أو حالة اجتماعية، أو جنس، أو عمر، أو مكان سكن كما قد يفترض أي مبتدئ في العلوم السياسية والاجتماعية، وكأنّ للمذاهب طبيعة جوهرانية وماهية ثابتة عابرة للتاريخ. لكن «الناس بشكل رئيسي» كما يقول هادي العلوي، محقاً، في نقده لحنا بطاطو «لا يعتنقون المذهب لاغراض سياسية أو فئوية بل يبتغون بمذهبهم الشفاعة ورضوان من الله كل بطريقته». المشكلة والخطر ليست في المذاهب كتصوّرات دينية إذن، بل في تسييسها الراهن واستخدامها أداة لقراءة وتفسير الصراعات السياسية والاجتماعية. وحسب هذا المنطق اللاتاريخي يَغيب ويُغَيَّب العرب في الوطن العربي، فهم سنة وشيعة ومسيحيين، كما يقال لنا، لم يدخلوا التاريخ ولا زالوا عاجزين عن التعبير عن صراعاتهم السياسية والاجتماعية بأدوات وأفكار العصر الحديث. وتَغيب وتُغيب أيضاً السياسة والأوطان، والنتيجة هي خطاب الخروج من التاريخ الذي يعممه سياسيو الطوائف والمذاهب.

في المنطق الوهابي

وفي ظل الاشتباك السياسي ــ الاجتماعي القائم، هناك أيضاً من يُسَوّق أحياناً منطقاً قريباً مما يسمى في سوسيولوجيا الأقليات «المنطق الأبيض»، كما في «أيديولوجيا البياض»، حيث لا يَرى «الأبيض» نفسه مكوناً عرقياً أو إثنياً آخر كغيره، بل كحالة طبيعية (محايدة عرقياً وإثنياً) تمثل «المركزية» المجتمعية (والإنسانية) ويتم على أساسها قياس انحراف الآخرين عن «الطبيعي» أو «الصحيح» بمقدار اختلافهم عنه (الأقليات العرقية والإثنية شاذة، ومجرمة، وغير طبيعية بمقدار اختلافها عن الرجل الأبيض الذي هو مركز الكون ومعيار الأخلاق والإنسانية وكل شيء وفق هذا المنطق).
في حالة المشهد الإسلامي المعقد، يمكن الزعم أن هناك منطقاً مشابهاً يمكن رؤية معالمه في الخطاب الوهابي الراهن (أو منطق الوهابيين الجدد) المشابه في بنيته «للمنطق الأبيض» في نظرته الى نفسه والى المسلمين الآخرين. فهو لا يرى في نفسه مجرد تصور آخر للإسلام، أو حتى للسنة، في مشهد شديد التعقيد والتنوع بالإسلاميين والمسلمين والسنة. بل يرى أنّه هو الإسلام (وهو السنة) ذاته الذي لا يجوز الخروج عليه أو الاختلاف معه في أقل التفاصيل، وعليه يشيطن كل من يحيد عنه ويُنْكر عليه «حقه» في التعبير عن نفسه كمسلم أو كسنة. وهذا المنطق يبدو جليا حين يُقَدّم «الفقيه» السني والحزب السني، وبعض ما هو سني كذلك، وفق النظرة الوهابية، كفقيه وحزب إسلامي (فالمسلم «النقي» أو «المثالي» الذي يخترعه ويتخيله هذا المنطق هو مرادف للوهابي) بسبب الهيمنة على الدلالات الدينية بتأثير من الدور الذي لعبه تاريخياً «أهل القلم والكتاب» (المؤرخون الرسميون الموالون للسلطة من المشتغلين بالدواوين، كما وصفهم محمود إسماعيل) ويلعبه اليوم المال النفطي عبر شراء الإعلام والكتبة. فيما يُقَدّم الآخر حتى في الإعلام مذهبياً أساساً (كشيعي أو غير ذلك)، والحزب (حزب الله مثلاً) كشيعي لِقَضْم وتضييق مجاله الحيوي الى أبعد حد ــ في أغلب الأحوال ليس لأنّه شيعي بالضرورة، بل لأنّه مقاوم ومختلف سياسياً مع برامج جماعة «عرب من أجل إسرائيل». ومن يراقب الإعلام العربي وتقاريره يجد أنّ بعض الأخبار المتعلقة بحزب الله مثلاً ترد في جرائد تَدَّعي «القومية» تحت مسمى «جماعة حزب الله الشيعية» (ربما يكون هذا فعلاً غير مقصود ومجرد نقل حرفي لتقارير إعلامية كما أخبرني أحد الإعلاميين بعد احتجاج على هذه الصيغة الفجة، لكنّها في النهاية تسويق للبضاعة الفاسدة ذاتها التي تشكل بعضاً من مادة الحرب الإعلامية).
ويتم اللجوء الى الخيار المتطرف بالتكفير، أحياناً، وهو نتيجة منطقية لبنية هذا الخطاب، حين تصبح هذه الرؤية في مأزق كما حصل أثناء حرب تموز وازدياد شعبية حزب الله وكسره لحدود المذهب والطائفة والدين وبالتالي دخول هذا «المنطق» في أزمة (مثلاً، فتوى سفر الحوالي في أوج حرب تموز، وفتوى اخرى سابقة اصدرها عبد الله جبرين واستنكرهما ورفضهما رجال دين من كل قطر عربي تقريباً). والتكفير والإخراج من الدين في هذه الحالات هو عجز وتعبير عن مأزق اصطدام الخيالات والأساطير بمعطيات الواقع وحقائقه ــ حينها يتم اللجوء الى الحشو أيضاً، كما في مفهوم الحشوية في التراث الإسلامي. لكن هذا المنطق، ولأنّه سياسي في الجوهر، ليس حكراً على بعض رجال الدين، بل يتبناه بعض «المثقفين» الليبراليين الذين يصفون أنفسهم بـ«المؤرخين» في بعض الجرائد والمواقع «العربية»، وهو ما يعكس التصحر والانحطاط الفكري والسياسي لديهم. فبعض ما يمكن قراءته لبعضهم لا يخلو من ترديد التوصيفات المذهبية في كل سطر واعتمادها أساساً في التحليل السياسي للوصول الى تبرير موقف سياسي منحاز الى أنظمة متخلفة تقتات على نشر الفتنة المذهبية والطائفية. يغدو حزب الله حزباً شيعياً أولاً وأخيراً (وشيعي وفق هذا المنطق المنحط لا تعني بالضرورة تصوراً آخر للإسلام مساوياً لغيره، فهذا قد يكون مقبولاً للشيعة وغيرهم، ربما، بقدر ما تعني أنحراف عن من يعتبر رؤيته هي الأصل والحق)، وليس حركة مقاومة أساساً والاولى والوحيدة التي أنجزت انتصارين كبيرين على عدو الامة الأول، وليس حتى كحزب إسلامي على الأقل. فيما حركات اخرى (برغم استعداد بعض قادتها للإبقاء على اتفاقية كامب ديفيد مع عدو الامة الذي هزمه حزب الله وبرغم حديث آخرين منهم للإذاعة الصهيونية) هي حركة إسلامية نادراً ما توصف مذهبياً.
لكن التنوع والازدحام في المشهد الإسلامي الراهن، وكسابقه في التاريخ، مرده الأساسي سياسي ــ اجتماعي (يكفي قراءة الشهرستاني للتأكد من ذلك سابقاً. يمكن، أيضا، قراءة مقدمة طه حسين في «الفتنة الكبرى» ــ التي تفجرت بفعل تحولات تاريخية نتجت من التوسع الهائل للدولة وما ترتب على ذلك من تحوّلات اقتصادية وثقافية وسياسية من ضمن أشياء اخرى كثيرة أنتجت فقهها لتبرير وجودها لاحقاً ــ وقسم المنهج من «في الشعر الجاهلي»، أو أحمد عباس صالح «اليمين واليسار في الإسلام»، وغيرهم الكثير). وبرغم أنّ أغلب الحركات المعارضة في التاريخ الإسلامي أخذت طابعاً فقهياً في الشكل، كان الجوهر دائماً اجتماعياً وسياسياً بامتياز، وأحياناً اخرى كان التعبير أيضاً، وليس الشكل فقط، اجتماعياً واضحاً كما تشير الكثير من الدراسات على الحركات الإسلامية، كما في حالة بعض فرق الخوارج مثلاً وكما في ثورة الزنج (انظر مثلاً، فيصل السامر: «ثورة الزنج»).
ولأن هدف التصنيف النهائي سياسي ــ اجتماعي أساساً، ولأن السياسة والاجتماع، لا الفقه، هي في خلفية الاهتمام بالإسلام، فإنّ تصنيف الإمام الخميني في «الحكومة الإسلامية» يبدو أكثر منطقية وحياداً مذهبياً، ومناسباً أكثر، تاريخياً من غيره كون الاهتمام (العالمي الشعبي والأكاديمي) بالإسلام سياسي أساساً، لا فقهي. فهو يُعَرِّف الإسلام على أنّه «دين أولئك الذين يرغبون بالحرية والاستقلال. إنه مدرسة اولئك الذين يحاربون الإمبريالية» (ص: 8، ترجمتي عن النسخة الإنكليزية. النسخة العربية مماثلة إلا في كلمة «الكفار» التي يمكن أن يُستدل من السياق أنها تعني الغرب الاستعماري، بدل كلمة الإمبريالية المعتمدة في النسخة الإنكليزية). وعلى هذا الأساس يميّز الإمام الخميني بين إسلامين: إسلام الحرية والاستقلال ومحاربة الإمبريالية، وإسلام آخر يُنَظِّر له من سماهم «خَدَم الغرب» (المصدر السابق). هذا التصنيف يمكن أن يُسَهّل فهم تعقيد المشهد ويسهل فهم الحراك الإسلامي بدون تبسيطيه مبتذلة وسطحية، لأنّ الهدف سياسي أصلاً. الأهم، أنّ هذا التصنيف يمكنه أن يتجاوز الثنائية الزائفة والقاتلة التي تهدد أوطان العرب والمسلمين.

مقابلة وإسلام

ربما تكون إجابة السيد نصر الله عن السؤال المتعلق بفلسطين هي أكثر ما يلفت الانتباه في مقابلته مع جوليان اسانج («روسيا اليوم» في 17 نيسان)، فهي إحدى الإجابات التي تضيف تحدياً جديداً إلى محاولة فهم الإسلام سوسيولوجياً. فالإجابة لا تتفق، بل وتتناقض، مع تصور الغرب للإسلام وتصوره أيضا لرؤية الإسلاميين لقضية فلسطين. لكن ربما يكون الأكثر أهمية في المقابلة، وما يهم هنا، وما يفسر إجابة سؤال فلسطين أيضاً، هو تقديم السيد نصر الله للمشاهد العربي والغربي إسلاماً آخر غير ذلك الذي تخترعه وتسوقه الآلة الإعلامية والأكاديمية الغربية، وغير ذلك الإسلام الثنائي القطبية الشائع والقاتل الذي يَسهل تصنيفه مذهبياً (إما سني أو شيعي) والذي يريح الكسالى من دارسي الإسلام في الأكاديميات الغربية، وأيضاً غير ذلك الإسلام الليبرالي الساذج والاعتذاري الذي يخترعه بعض الأكاديميين المسلمين والعرب في الغرب في محاولتهم التشبه بالغربي (مبادرة السيد نصر الله الأخيرة حول بناء الدولة في لبنان تحتاج إلى دراسة عميقة خاصة بذاتها ولذاتها، وستشكل تحدياً جديداً للنمطية التي يعالج بها الفكر الإسلامي، هذا عدا أبعادها السياسية).
وبرغم أن كل سؤال وكل جواب للسيد كانت فرصة للعالم ليتعرف إلى فكرة جديدة تتحدى منطق تصنيف السنة والشيعة وحتى المسلمين والمسيحيين، فإن السيد نصر الله قدم تصورا للإسلام هو في الحقيقة أقرب ما يكون الى تصور الغالبية من المسلمين والعرب، سنة كانوا أو شيعة أو غير ذلك، وهو امتداد لتصور إسلامي ثوري يتعذر تصنيفه المذهبي الواضح و«المثالي» والقطعي، ويشكل بالتالي تحديا للعقول المركبة مذهبيا وطائفيا. وهو تصور يمكن اعتباره وريثا لتقليد وتراث تطور، بشكل ملحوظ، في القرن التاسع عشر مع جمال الدين الأفغاني كما سأوضح لاحقا. مشكلة المنطق الإسلامي هذا، الذي يمتد من الافغاني الى محمد عبده الى السيد نصر الله مرورا بعلي شريعتي ومالك بن نبي والإمام الخميني ليس أنه شيعي أو سني، أو أنه حتى هجين يحمل ويعكس تعقيد الحالة الإسلامية، بل أنه يشكل منطقا إسلاميا مضادا للمنطق المذهبي والطائفي.
في المقابلة، اختار السيد نصر الله مواجهة استفزاز الاصولية العلمانية المتضمنة في السؤال الأخير بمداخلة عبقرية، لم يكن أهم ما فيها: «نحن لا نقاتل من أجل فرض عقيدة دينية على أحد»، بل أيضاً استحضار السيد للفكرة الإسلامية الثورية عن الإنسان و«الفطرة الإنسانية» الرافضة للظلم وإعطائها بعداًعقلانياً، وهذا كان فذاً بكل المقاييس: «الإنسان بفطرته وعقله يقول: الصدق أمر جيد، الكذب أمر قبيح. العدل امر جيد، الظلم أمر قبيح. مساعدة الفقراء والمظلومين أمر حسن، أما الاعتداء على الآخرين وسفك دمائهم فأمر قبيح. مسألة مقاومة السيطرة الأميركية أو غير الأميركية، أو مقاومة أي احتلال علينا أو على شعبنا وأهلنا هي مسألة أخلاقية وفطرية وإنسانية».
كان اسانج، ربما، سيتردد في طرح السؤال لو انتبه أثناء تحضيره للحلقة الى خطاب السيد نصر الله في أعقاب «عملية الرضوان» في 16 تموز 2008 وعرضه العميق لمفهوم المقاومة. فهي ممارسة مثلت باستمرار سياسة أصيلة ورافضة للهيمنة والاحتلال في المنطقة منذ بداية الهجمة الاستعمارية (وتصاعدت منذ احتلال فلسطين في 1948) بغض النظر عن الاختلاف الايديولوجي بين المقاومين السابقين واللاحقين. هذه الاستمرارية هي ما دفع السيد نصر الله في كلمة عملية الرضوان لوصف المقاومة بـ«الهوية الحقيقية الأصيلة، الراسخة، الثابتة، لمنطقتنا وأمتنا». فالمقاومة، يقول السيد، «لا تسقط. (بل) تنتقل من يد مجموعة الى مجموعة، من فصيل الى فصيل، من حزب الى حزب، من عنوان الى عنوان. ولكن تبقى الفصائل والأحزاب والاطر والعناوين مجرد مظهر خارجي للجوهر الحقيقي لهذه الامة، جوهر المقاومة ورفض الظلم والطواغيت». وهذه الفكرة أعاد تكرارها السيد نصر الله في كلمته في 25 أيار 2012 في ذكرى الانتصار في تعليقه على ما قاله اسحاق شامير عن هزيمة الكيان الصهيوني. هذا، كما يبدو، هو أحد الأسباب الحقيقية للهجوم على حزب الله، لأنّنا في الواقع لسنا في محضر جدل فقهي، فهذا له مكان آخر لا يهمنا هنا، ولأنّنا أيضاً لم نسمع حزب الله يستخدم التاريخ العربي والدين الإسلامي، وببراعة، إلا في مواجهة الكيان الصهيوني. بل لأنّنا في حالة صراع سياسي توظف فيه كل الأسلحة بما فيها الدين.
أو، لو انتبه أسانج، من ضمن خطابات كثيرة، الى كلمة السيد نصر الله في مؤتمر المقاومة في 20 أيار 2009 والتي عرض فيها كيف يمكن أن يكون الإسلام أداة تحررية فعالة انتصرت في أيار وتموز، وأيضاً كيف يمكن أن يكون أداة طيعة في خدمة استراتيجية الهيمنة الغربية على منطقتنا (كما نرى في «مبادرة «توماس فريدمان العربية للسلام» الممهورة بختم خادم الحرمين). لكن إذا كان هناك من لا يستطيع إلا أن يُصنف مقاومة الكيان الصهيوني مذهبياً حتى يعاديها، فهو لا يُجرم بحق حزب الله فقط، بل بحق فلسطين ولبنان وأهل المنطقة كلها، شيعة وسنة ومسيحيين.

ما قبل السيد نصر الله

يروي رشيد رضا عن استاذه محمد عبده حديثه عن الأثر العميق الذي تركه عليه وعلى حياته وفكره لاحقاً لقاؤه الأول بجمال الدين الأفغاني (أواخر 1286 هجري، 1869 ميلادي) بالحديث عن إعجابه وانبهاره بتفسير الأفغاني المتميّز والجديد على عبده، طالب الأزهر حينها، للقرآن. فتفسيره الجديد عليه ملأ قلب عبده «عجباً وشغفه حباً»، كما نقل عنه رشيد رضا (تاريخ الإمام، ج 1، ص:26). وتأثير الافغاني العميق على عبده استمر لاحقاً، كما قال، وحتى أنه أثر في شخصيته ــ ساهم في تحوله من شخص منعزل تماماً تقريباً الى ناشط منخرط في الهم الشعبي، واخرجه، كما روى رضا «من خمول تصوفه وخمود أزهريته الى ميادين الجهاد في سبيل التجديد الديني، والإصلاح الاجتماعي المدني، يخوض غمار الثورات، وتتقاذفه أمواج الأسفار، وتكافحه فتن الامراء المستبدين، وجهالة حملة العمائم الجامدين» (المصدر السابق، ص: ط).
والأهم، كما روى رضا، أنّ عبده «قرأ على السيد (الأفغاني) كتاب الزوراء للدواني في التصوف، وشرح القطب على الشمسية (شرح القطب الرازي على الرسالة الشمسية للقزويني) والمطالع (المطالع السعيدة للسيوطي، والمطالع النصرية للهوريني) وسلم العلوم (محب الدين البهاري) من المنطق، والهداية والإشارات (لابن سينا) وحكمة العين (الكاتبي) وحكمة الإشراق (السهروردي) في الفلسفة، وعقائد الجلال الدواني في التوحيد، والتوضيح مع التلويح في الاصول (شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه للتفتازاني)، والجغميني (الملخص في الهيئة البسيطة)، وتذكرة الطوس في الهيئة القديمة (التذكرة في علم الهيئة لنصير الدين الطوسي).» (المصدر السابق، ص: 26 – التوضيح لأسماء الكتب وأصحابها بين الاقواس مضاف بتصرف).
وتأثير الروح الثورية للأفغاني على محمد عبده وأثر قراءته للكتب السالفة الذكر سيظهر لاحقاً عندما يصبح التلميذ بدوره أستاذاً في الأزهر فيقرأ طلابه عليه من الكتب ما لم يكن حينها يُدَرَّسْ أو حتى معترف به أصلاً في الأزهر مثل «شرح العقائد النسفية» للإمام سعد الدين التفتازاني، وهو كتاب صغير الحجم لكنّه يتضمن شرحاً فلسفياً لكتاب «العقائد» لنجم الدين النسفي يبدو أنّه أثر في عبده والافغاني لدرجة أنهما علقا عليه أكثر من مرة وقام عبده بتدريسه لاحقاً (انظر سميرة حاج: «إعادة تشكيل التقاليد الإسلامية»، فهمي جدعان: «اسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث»). والمثير في هذا الكتاب، الذي أثار سُخْط الأزهر حينها وقَلَّبَهُ على عبده، أن النسفي كان متأثراً بالمعتزلة وأفكارهم وهو ما يفسر لماذا لا يزال البعض حتى اليوم ينتقد التفتازاني ويرفض مبدأه (ومبدأ المعتزلة) بتقديم العقل على النقل. وبعيداً عن التفصيل، أيضاً، أغلب القراءات السالفة الذكر التي تعرف عليها عبده عن طريق الأفغاني هي بمجملها عابرة للمذهب، أو ليس فيها مفهوم المذهبية القطعي الذي يسوق له هذه الأيام. وهذا يفسر رفض احاديي التفكير، وأتباع الثنائية القطبية في الإسلام، لبعض هذه القراءات فهي تخلق مأزقاً لهم حين لا تتوافق مع سطحية خيالهم الديني والمذهبي ــ يذكر أحمد أمين في «زعماء الإصلاح في العصر الحديث» أنّ «هذه الكتب لم تكن لها قيمة في ذاتها»، وأن الشيخ حسن الطويل كان يقرأ بعضها في الأزهر، وإنما كانت أهميتها في طريقة قراءة الأفغاني لها من أجل «شرح أفكاره وآرائه، والتبسط في مناحي الفكر، والتطبيق على الحياة الواقعة، ونظرته الى العالم كوحدة، مازجاً التصوف بالفلسفة وبالهيئة وبغير ذلك» (ص: 65)، وهذا رأي يمكن الاختلاف معه قليلاً لأنه حكم فلسفي عام قد ينطبق على أي كتاب، إذا سلمنا طبعاً أن المهم هو القارئ لا الكتاب أو الكاتب.
والمعتزلة، المعروفون أيضاً بأهل «التوحيد والعدل»، تبعاً لأهم مبادئهم، لم يكونوا فقط أول من حاول، وبمنهجية، عقلنة العقائد الإسلامية وأسسوا لمركزية العقل وقدموه على النقل، بل هم أساس فكرة الإصلاح والتجديد في الإسلام التي يتغنى بها من لا تروق له أفكارهم ومن يتأزم حين يتكسر إطاره المذهبي في مواجهة الواقع والتاريخ الفعلي. ومن أعلامهم، عدا واصل بن عطاء الذي هو أصل التسمية التي أطلقها عليه الحسن البصري، كما أشار الشهرستاني (هناك فرضية اخرى ترى في اعتزال القرن الثاني امتداداً لمعتزلة الصراعات السياسية الاولى)، الجاحظ، ونجم الدين الرازي، وأبن الرواندي، وأيضاً القاضي عبد الجبار الذي حفظ كتابه الرائع «المُغني في أبواب التوحيد والعدل» بمجلداته الخمسة بعض تاريخ وقصة الاعتزال وأفكارها. ولإدراك الأهمية الفكرية لهذه الحركة ومساهمة منتسبيها، يكفي فقط الاطلاع على أثر الجاحظ في الفكر الإصلاحي الإسلامي حتى اليوم وتأسيسه لفكرة الإصلاح ذاتها التي حمل لواءها الأفغاني في القرن التاسع عشر وتلاه الكثيرون لاحقاً. فمع المعتزلة، ومع الجاحظ تحديداً، ولدت الفكرة التي نعرفها اليوم بالإصلاح أو التجديد في نظريتة في التطور التاريخي وفي سلسلة مفاهيم في مقدمتها مفهوم «التقهقر»، الذي يشير إلى التحول وإمكانية الانتقال الى مراحل اخرى.
ففي رسالته الى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دُواد الشهيرة بـ«في النابتة» يقدم الجاحظ نظرية في التطور التاريخي مشتقة من الأحداث السياسية يقسم فيها التاريخ الأسلامي الى ثلاث مراحل، أو طبقات ومنازل كما سماها (انظر نص الرسالة في «رسائل الجاحظ، ج2، ص: 7-23. أيضاً، انظر شرح الرسالة عند فهمي جدعان، «اسس التقدم»، ص: 28-30). اللافت في تقسيم الجاحظ لهذه المراحل (التوحيد، الفجور، الكفر) أنها سياسية بامتياز، رغم محاولة تبريره للتوصيف عبر الإشارة لمخالفة اسس الإسلام. فما سماه عصر «الكفر» وهو عصر ظهور «النابتة»، عنوان الرسالة، لم يتميّز عن عصر «الفجور» الذي سبقه إلا بقيام البعض بتسويغ أعمال، وحتى الدعوة لمن سماهم الفَجَرَة (الحكام). فما حدث منذ مقتل عثمان وعلي، وهي بداية مرحلة الفجور، ثم تأسيس الملكية الاموية (الكسروية في شكلها كما أشار) وما تبعها من تصرفات خالفت برأيه اسس الإسلام لم يختلف مع ما تلاه إلا بقبول الناس بِجَوْرِ السلطة التي ميزت المرحلة الجديدة (استخدام الدين في الدفاع عن السلطان الجائر).
لم يكن الجاحظ سنياً أو شيعياً بالمعنى القطعي للكلمة كما يسَوّق اليوم، كان مسلماً معتزلاً بالمعنى الفكري والسياسي للكلمة. لم يكن شيعياً، لكنه كان يبغض بني امية وبني مروان ويحب آل البيت «مصابيح الظلام وأوتاد الإسلام» (ص:12) وقهره ما حل بهم على يدي من وصفه «بالخليع»، وهو ما يمكن فهمه كانحياز الى مشروع سياسي (انظر طه حسين، «الفتنة الكبرى». هشام جعيط، «الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر») وأخلاقياً، لأن المواجهة كانت بين معاوية الذي ظن «أنّا لا نصل الى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل» وعلي الذي «لا يريد إلا الحق من طريق الحق، وإلا فلا كان» (أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص: 109).
كان الجاحظ مثل غالبية المسلمين بغض النظر عن مذهبهم: تَحَسّرَ لقتل عثمان الذي «ما سمعنا بدم بعد دم يحيى بن زكريا عليه السلام غلا غليانه»، (وهو يكون بذلك مثل الإمام الحسن الذي حزن لمقتل عثمان حتى أنّ طه حسين وصفه «بالعثماني»)، وأحزنه مقتل علي الذي «أسعده الله بالشهادة وأوجب لقاتله النار واللعنة»، ووصف قاتله «بِأشقاها»، وكان يحب الحسين واعتبر قتله دلالة على مرحلة «الكفر».
ولأن الرسالة بالرسالة تذكر، أختم بما جاء في رسالة من فردريك انجلز الى فرانز مهرنج بتاريخ 14 تموز 1893 عن حالة مشابهة. يقول: «لو استطاع ريتشارد قلب الاسد وفيلييب اوغست أن يُدْخِلا التجارة الحرة بدلاً من أن يَنْجَرّا الى الحروب الصليبية، لأمكن تجنب خمسمائة عام من البؤس والغباء».
* أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدوليّة في جامعة ويسكونسن ــ بارك سايد