السبت، 20 أغسطس 2011

جريدة النهار

جنازة جنوبية / بقلم فادي ريحان

لوحة لمحمد شمس الدين.
فقدت مراسم الدفن هيبتها التي كانت لها في القرن الماضي في البلدات والقرى الجنوبية، وانشغل الناس في هموم معيشتهم عن تشييع موتاهم، فبات يسير خلف الجنازة عدد قليل من المقيمين في تلك البلدات التي نزح أهلها الى بيروت او هاجروا الى المهاجر على دفعات متواترة. هنا وصف لجنازة في إحدى البلدات الجنوبية.

بعد أن يغسل عدد من شبان البلدة جسد الميت كسباً للثواب، وهم تخصصوا بهذا العمل في مدارس دينية تنتشر في البلدات الجنوبية، يسجّى الميت في غرفة داخل المنزل، غالبا ما تكون الصالون. تتوزع النسوة حول جسده الملفوف بكفن أبيض. واحدة قرب رأسه تلقّنه الآيات القرآنية بصوت قريب من الهمس، تكون غالبا من الجارات او الصديقات او مشهوداً لها بالإيمان الفائض وخوفها الله وتعاملها مع الموت على أنه مفتاح الى الحياة الآخرة. لا تبكي وهي تقرأ الآيات القرآنية التي تختارها غالباً من تلك التي تتعلق بعذاب القبر او الاستغفار عن الارتكابات التي قد يكون الميت قد اتاها في حياته الفانية على هذه الأرض، او التي تصف الجنة والحياة الأبدية فيها وعذاب نار جهنم وفظائعه. هي لا تبكي لكنها تستثير النسوة الباقيات على البكاء، وهن بنات الفقيد وزوجته وأخواته وقريباته وربما حفيداته. يتوزعن واحدة قرب رأسه، ثانية عند قدميه، ثالثة قرب بطنه، تقابلها رابعة من الجهة الثانية. في تلك الدائرة القريبة من الجسد المسجّى، يكنّ في الطبقة الأولى من القرابة، ثم تصنع القريبات البعيدات دائرة ثانية خلفهن، ويكون بكاؤهن أهدأ ومتقطعا.
بكاء نسوة الدائرة الأولى يستجرّ بكاء نسوة الدائرة الثانية، واذا ارتفع النشيج فربما استجرّ بكاء نسوة يتوزعن بين المطبخ والشرفات او أولئك اللواتي يجلسن في الخارج يدخنّ ويكرعن القهوة، تدخيناً وكرعاً ناجمين عن الحزن أو عن شبيهين به. فالسيجارة تلحق السيجارة وفنجان القهوة مرّ أسود وثقيل، والملابس السوداء المتكاثفة والمتقاربة على اجسادهن المتقاربة، خالية من أي أثر للألوان. هذا كله يضاعف الجو الحزين، ويجعل مراسم وداع الفقيد قبل نقله الى قبره، كئيبة وحزينة، كما يرجو الأحياء حين يشعرون بأن دورهم في الموت آتٍ لا محالة، وبأن هذا الفقيد المسجّى كان بينهم البارحة مليئاً صحة وحياة، وها هو الآن يعود الى ربّه بلا حركة او حتى جملة وداعية. سيحمل الى القبر على أكتاف أصدقائه وسيوارى الثرى ويصبح تراباً.
وجود النسوة في غرفة الميت لا يعني أن ذلك ممنوع على الرجال الذين يجلسون غالبا في الخارج لا يبكون، بل لا يمكنهم البكاء لأن الدموع متروكة للنساء. فعلى الرجال ان يظهروا أقوياء أشداء حيال هذا المصاب الأليم، فلو بكى الرجال والنساء جميعا فمن يتمكن من استرضائهم والتخفيف عنهم ومواساتهم بتربيت أكتافهم؟
يترك الرجال للنساء غرفة الميت، يسمعون بكاءهن فتتكثف علامات الحزن على وجوههم، ولو اراد احدهم أن يصرّف دمعة حارقة علقت بين المقلة والجفن لانزوى لبكاء سري، تشبثاً بالرجولة وتوكيداً لمسؤولية الرجل عن المرأة في مثل هذه الأحوال والأهوال. والرجل الذي يبكي يوصف بأنه يفعل مثل النساء.
الرجال، وهم أبناء الفقيد، إخوته وأقرباؤه وأصدقاؤه، يجلسون في صف طويل متقاربين، يستقبلون المعزّين الذين يبدو الحزن أيضا واضحا على وجوههم، لأن ذلك جزء من طقس العزاء. هذا لا يمنع تبادل أحاديث جانبية بين المعزّين، غالبا ما تتعلق بالسياسة او بقصص وحوادث تدور حول المتوفى لاستذكار فضائله ومكارمه. في مثل هذه الحالات يصبح الميت كتلة فضائل، على طريقة "أذكروا محاسن موتاكم".
النسوة النادبات في الغرفة، يعلو بكاؤهن وينخفض بين فينة وأخرى. اذا وجدت إحدى النسوة ان البكاء قد خفت، تروح تستفزّه بجملة من قبيل: "سلّم على الجميع... أنتم السابقون ونحن اللاحقون". تقولها ملحّنةً وفيها كثير من التأوه. حينذاك تعاود نسوة الحلقة الأولى القريبة من المسجّى البكاء والنحيب، صارخات مثلا: "يا بيي ليش تاركنا ورايح"، او "لمين تاركنا يا بيي"، او "ما شبعنا منك يا خيي"، او "الله يسهّل علييييك". جمل كهذه تكفل إعادة الزخم الى النحيب، فيتحول صراخاً، يبكي نسوة الحلقة الثانية، وتصل تراجيع هذا البكاء الى الخارج، فتبكي النسوة المدخنات وشاربات القهوة، وقد يغص بعض الرجال الجالسين في الخارج بدمعة لا يذرفونها، لكنها تجعل عيونهم حمراء ووجوههم متشنجة القسمات، كأن رساماً بلا شفقة رسمها. لزحزحة عبء الضغط الذي تصنعه الدموع المضغوطة في الصدور، يقول أحد الرجال بصوت عال، "الفاتحة عن روح المرحوم"، فيرفع بعض الرجال أيديهم قريبا من وجوههم، ويروحون يتمتمون سورة الفاتحة. المؤمنون العاديون يقرأون سورة الفاتحة بوقتها المعتاد الذي لا يتعدى الثلاثين ثانية، أما المؤمنون المتمرسون فبتمهل وعلامات الابتهال على وجوههم، وحين ينتهون من القراءة يمسحون وجوههم مسحة واحدة ويرفعون صوتهم بخاتمة السورة القرآنية، أي "صدق الله العظيم". هؤلاء المتمرسون يُعرفون من دون ادنى جهد، فهم أصحاب ذقون خفيفة مشذّبة و"معلّمة"، أي محددة الأطراف، تعلو جباههم بقعة سوداء دلالة على التقائها طويلاً بسجدة الصلاة. هم مصلّون مداومون، بل ربما يصلّون فروضا اضافية غير مفروضة، ويحملون سبحات في ايديهم ويتكلمون بأصوات هادئة وينظرون حولهم بخشوع ومهابة. هؤلاء ينتمون في غالبيتهم الى "حزب الله" او يكونون من مؤيديه القريبين. أما الذين لا يقرأون الفاتحة ويتصرفون كأن هذا الطقس لا يعنيهم، فهم غالبا شيوعيون قدامى، ولا يزالون على شيوعيتهم، وهؤلاء كثر في الاجتماع الشيعي في جنوب لبنان، ولو ان لا فاعلية سياسية لهم.
في ذاك العزاء أدار احد المؤمنين المتمرسين نقاشا حول التقليد والمرجعية الدينية وولاية الفقيه. كان يريد ان يوصل رسالة الى الرجال الجالسين، مفادها أن تقليد المرجعية الدينية واجب، لأن "العبد" لا يعرف كل واجباته الدينية في هذه الحياة المعقدة والمتشابكة، لذا فإن المرجع الديني خير مساعد لتلافي الخطأ في التقدير والحكم. سأله احد الشيوعيين القدامى عن المرجعية الدينية التي يقلّدها، فأجاب فرحاً ومتشاوفاً بأنه يقلّد الإمام الخامنئي، مرفقاً اسمه بعبارات من قبيل "حفظه الله" أو "أدام الله ظلّه". ثم ردّ السؤال الى سائله، فأجابه هذا بأنه يقلّد إبراهام لنكولن، فرد مقلّد الخامنئي مستهجناً ومصدوماً، فأجاب الشيوعي أن الله قال "من اعتق رقبة أدخلناه الجنة ولنكولن أعتق 10 ملايين رقبة، فلا بد أنه محظي عند الله في الجنة الآن". ضحك الجميع ضحكة مكتومة، فلا مجال للضحك بصوت مسموع في حضرة الحزن، فما كان من الرجل التقي والورع الا أن استأذن منصرفاً بعدما ألقى التحية على أفراد عائلة المتوفى.
بعد الإنتهاء من مراسم تقبّل التعازي المنزلية، يذهب الجميع الى النادي الحسيني في انتظار موعد الدفن. في ما مضى كانت الحسينية تعجّ بالمعزّين. فمراسم الدفن تجذب إليها اهالي البلدة ليسيروا خلف الجنازة، ويحملوا النعش على اكتافهم ويتبادلوا حمله للشفاعة من عذاب القبر وطلب موت رحيم. لكن الحال لم تعد كذلك منذ سنوات. صارت المراسم تجتذب عددا قليلا من الناس، عدا أقرباء الميت. يقال إن الناس باتوا مشغولين بتأمين شؤون حياتهم ومعيشهم وخصوصا أن جلّ أهالي هذه البلدة وغيرها من البلدات، يعيشون في بيروت ولا يأتون إليها الا في العطل الأسبوعية. ويقال إن المجاملات الإجتماعية لم تعد ذات اهمية كما كانت في ما مضى، فالآن يتصل الصديق أو القريب هاتفياً بابن المتوفى أو زوجته أو أحد أقربائه ويعزّيه ويدعو له بطول العمر ويقول إنه لا بد سيحضر في ذكرى الأسبوع، التي يدعى اليها جميع الاصدقاء والأقرباء والأبعدين، وفيها تلقى قصائد وتُحيا مجالس عزاء تنتهي بوليمة عن روح المتوفى، تكبر او تصغر بحسب الأحوال المادية.
يردد الأجداد أن الموت فقد جلاله الذي كان له في ما مضى.
يعود الرجال من الحسينية الى المنزل لإحضار الجثة وإتمام مراسم الدفن.
حين يرفع الشبّان الجثة من بين نسوة الحلقتين، يرتفع الصراخ والبكاء، فهذه هي اللحظة الأخيرة التي يمكنهن رؤية الميت فيها، وهن لن يتمكّن من الذهاب الى المقبرة مع الرجال. لحظة الوداع تشبه نيراناً ترتفع بعد رشّها بالنفط، ثم تخمد ببطء. هكذا يندفع البكاء والنحيب واللطم والتوديع، ويكون "النفط" رفع الجثة ونقلها من دار الفناء الى دار البقاء.
تسير الجنازة في أنحاء البلدة في اتجاه المقبرة. الجثة مسجّاة على حمّالة، هامدة صامتة،، وتعتقد النسوة انها تسمع وترى، واعتقادهن هذا يزيد من بكائهن ونحيبهن لينلن رضا الميت وحظوته حين اللقاء به في الحياة الآخرة. يسير خلف الجنازة بضع عشرات من المقيمين في البلدة وجلّهم من الشبان، فكبار السن يفضلون الذهاب مباشرة الى المقبرة بسياراتهم او بسيارات من يوصلهم، فالمشي في الجنازة مضن ومتعب، وربما يذكّرهم بأنهم على "حافة القبر"، كما يقال.
تنتقل الحمّالة على الأكتاف بالمداورة. فأحد السائرين في الخلف، يقترب من أحد الحاملين ويقول له "آجر"، أي امنحني فرصة للحصول على ثواب المشاركة في الحمل، فيترك الثاني مكانه للأول، وهكذا دواليك، حتى يبدو الجميع كأنهم شاركوا في رفع الجسد الذي سيعود الى التراب، بينما ستهيم روحه في البرزخ ريثما ينفخ في الصور يوم القيامة ويحلّ موعد يوم الحساب. تصل الجنازة الى المقبرة، وقبل الدخول يتوقف الحشد مرتين، ويضعون الحمّالة والميت فوقها على الأرض لثوان، كأنهم يمنحونه الفرصة لتوديع سطح الأرض قبل أن يدفن في باطنها.
يوضع الميت في القبر في اتجاه القبلة. يلقّنه أحد رجال الدين الشهادة في أذنه. فالشهادة ستعينه في الامتحان الذي سيجريه له ملاكا القبر منكر ونكير. ثم يغطى القبر بالإسمنت، وينصرف الناس لإكمال حياتهم التي ستنتهي بالموت، بينما يُترك ساكن القبر الجديد الى حياته الجديدة منتظرا يوم الحساب.
جريدة النهار - السبت 20 آب 2011 - السنة 78 - العدد 24483
http://www.annahar.com/content.php?priority=8&table=mulhak&type=mulhak&day=Sat

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق