As-Safir Newspaper - جنان جمعاوي : هل هو «الثعبان» الضعيف في سوريا ما يغري المملكة؟
هل هو «الثعبان» الضعيف في سوريا ما يغري المملكة؟
عدا ثورة 25 يناير في مصر، لم يصدر عن السعودية أي موقف «رسمي» و«سريع» حيال الثورات التي اجتاحت العالم العربي. ثورة الياسمين في تونس كانت لتمر بلا أي بيان ملكي لولا ان حطت رحال الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في جدة في 14 كانون الثاني. فكان بيان رسمي في 15 كانون الثاني «يرحب» بالضيف التونسي.
ثورة مصر التي اندلعت في 25 كانون الثاني استدعت باكرا بيانا ملكيا. في 29 من الشهر ذاته، أدان الملك عبد الله محاولات «المندسين باسم حرية التعبير زعزعة أمن مصر واستقرارها».
كان لثورتي البحرين واليمن حسابات أخرى. فالأولى «مملكة» و«خليجية» وتركيبتها الديموغرافية «تنطوي على كثير من الألغام»... الإيرانية، في حين أن الثانية لطالما شكلت «جيبا» تخشى المملكة اشتعاله، لحسابات عشائرية مذهبية، ناهيك عن تنامي قوة القاعدة هناك. موقف الرياض من الأولى تُرجم دعما عسكرياً لإخماد الثورة، فيما اتخذ في الثانية شكل «تمترس» وراء مجلس التعاون الخليجي في مبادراته المتكررة لإنهاء الأزمة اليمنية، قبل استضافة علي عبد الله صالح جريحاً.
ثم اندلعت الثورة في سوريا. انتظرت الرياض ما يزيد على خمسة أشهر لتصدر بياناً رسمياً، وصفه الكاتب في صحيفة «الغارديان» البريطانية ايان بلاك، في حديث لـ«السفير» بأنه «انتقادي نادر»، نظراً إلى ان «السياسة الخارجية السعودية لطالما كانت عبارة عن سياسة إدارة الأعمال، أي تنطوي على حوافز مالية ومبادرات غير علنية».
في بيانه، أعرب الملك عبد الله عن «عدم قبوله بما يحدث في سوريا»، مطالباً «بإيقاف آلة القتل، وإراقة الدماء وتحكيم العقل قبل فوات الأوان». وأرفق التصريح بتحرك وصف بـ«الجريء» تمثل في سحب السفير السعودي من دمشق.
فما الأسباب الكامنة وراء إصدار المملكة بياناً كهذا، وهي المعروفة بـ«تحفظها التقليدي» عن التدخل في شؤون الدول الأخرى؟
مجلة «جويش ويك» الإسرائيلية عزت صدور البيان إلى سعي سعودي «لتحويل الأنظار عن تقارير حديثة تتحدث عن الدور الناشط الذي لعبته المملكة في دعم هجمات 11 أيلول»، مشيرة إلى كتاب جديد بعنوان «اليوم الحادي عشر» قال فيه انطوني سامرز وروبن سوان ان «مسؤولين سعوديين كباراً علموا بالمؤامرة. وأن الرئيس (السابق جورج) بوش استخدم نفوذه لحماية أفراد الأسرة المالكة».
محللون آخرون ردوا السبب فعلا إلى «حجم إراقة الدماء في سوريا»، فيما قال آخرون إن «زعامة» العالم العربي هي ما تطمح إليه الرياض. غالبيتهم قالوا «فتش عن إيران».
موقع الزعامة شاغر.. أو يكاد؟
لطالما بحثت السعودية عن دور قومي قيادي في المنطقة، لكن دوراً كهذا كانت قد استحوذت عليه مصر بزعامة جمال عبد الناصر في الستينيات، وحاول العراق لعبه في عهد صدام حسين في الثمانينيات وبداية التسعينيات، ومن ثم مصر خلال حكم حسني مبارك بعد وقوع العراق تحت الاحتلال الأميركي. لكن السعودية استطاعت، ومنذ منتصف السبعينيات، أن تصبح لاعباً في المنطقة.. إلى جانب سوريا، ثم ايران ومؤخرا أنقرة.
مع سقوط مبارك، باتت السعودية «العملاق السني» الوحيد في المنطقة، فهل تلوح في أفقها فرصة زعامة تكتمل مع سوريا أضعف؟
يؤثر الباحثان في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» اندرو تابلر، الذي تحدث لـ«السفير»، وسايمون هندرسون التوضيح أن «الرياض ربما غير راغبة في الذهاب أبعد من إصدار بيان»، لكن كلمات الملك «القوية تعزز ادّعاء المملكة زعامة العالمين العربي والإسلامي، وخاصة خلال شهر رمضان».
وكان الباحث في مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية نواف عبيد، الذي عمل مستشاراً سابقاً للسفير السعودي السابق لدى واشنطن الأمير تركي الفيصل، قال في مقال نشره موقع «سي ان ان» في 8 حزيران: «كونها مهد الإسلام وهي من يقود العالمين العربي والإسلامي، امام السعودية مسؤولية فريدة لمساعدة الدول في المنطقة، ومساندتها في تطورها التدريجي نحو أنظمة سياسية أكثر استدامة وتجنيبها الانهيار والفوضى».
«ادّعاء الزعامة» هذا (والتعبير لتابلر وأندرسون) هو السبب وراء «رغبة السعودية في توسيع دائرة مجلس التعاون الخليجي، لتشمل المغرب والأردن، كخطوة تهدف إلى تفعيل دورها القيادي الجديد الذي تسعى لاكتسابه في مواجهة الدور التركي المتنامي»، على حد قول الكاتب لدى مؤسسة «ميديا بريما» البريطانية فرج الكعلوك.
المحلل في «مجموعة أوراسيا» ومقرها واشنطن ايهم كامل لا يوافق على هذا الطرح. ويقول لـ«السفير» إن «السعوديين باتوا أكثر حزماً إقليمياً، فقط لا غير، وهم سيواصلون على هذا النحو خصوصا بعد سقوط حسني مبارك»، لكنهم «كانوا حذرين في رسم سياستهم حيال سوريا خشية أن تؤدي مواجهة أكبر مع دمشق إلى اضطراب أكبر في المنطقة».
ويوضح أنه «خلال الأشهر القليلة الماضية كان من الصعب التوصل إلى توافق بين فروع آل سعود المختلفة حول كيفية التعامل مع الأزمة السورية». ذلك لا يعني أن «هناك توافقاً تاماً حالياً، أقله الآن. لكن الأكيد، هناك تحول واضح في الوجهة».
كل الأسباب تشير إلى..إيران!
في المختصر، «للأمر علاقة باحتواء النفوذ الإيراني أكثر منه بسط زعامة سعودية»، يقول ايهم كامل، مستدركاً «لا أعتقد أن آل سعود تخلوا كلياً عن الأسد أو اتخذوا قراراً نهائياً بمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا.. لكننا ننحو في هذا الاتجاه».
من جهته، قال بلاك لـ«السفير» إن «النظامين السعودي والسوري لطالما كانا على طرفي نقيض، بسبب النفور المتبادل بين المملكة المحافظة والجمهورية العلمانية، وكذلك بسبب العلاقة الاستراتيجية بين سوريا وإيران».
وطهران بالنسبة للملك هي «رأس الثعبان»، الذي طلب من الأميركيين «قطعه»، وفق وثيقة تعود للـ2008، سربها «ويكيليكس».
وروى الباحث في «معهد واشنطن» جون هانا، في تقرير نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية في 9 آب، أن «مسؤولاً سعودياً رفيعاً قال له «قبل أسابيع» إنه منذ بداية الثورة السورية، اعتبر الملك أن تغييراً للنظام سيكون مفيدا للمصالح السعودية، وخصوصاً في ما يتعلق بالتهديد الإيراني، باعتبار أن «الملك يعرف أنه، عدا عن انهيار الجمهورية الإسلامية نفسها، لا شيء يمكنه أن يضعف إيران أكثر من خسارتها لسوريا».
أما الكاتب في «الغارديان» براين ويتاكر فرأى أنه «ليس للرياض مصلحة في تسويق الديموقراطية وحقوق الانسان في سوريا، بل مصلحتها في تسويق نفوذها السني ومحاربة النفوذ الشيعي الإيراني».
المواجهة.. بالأفيون والذهب!
بعد سقوط مبارك الحليف العتيد في العداء لإيران، وفق معادلة «عدو عدوي صديقي»، ومع اندلاع الثورة في البحرين والموقف الإيراني منها، ووسط خشيتها من أن تسد طهران الفراغ الذي سيحدثه انسحاب الأميركيين من العراق في نهاية 2011، غيرت المملكة استراتيجيتها، وما كانت تفعله همساً بات جهراً. في أيار الماضي، سعت إلى «حشد دول في الشرق الأوسط وآسيا للانضمام إلى تحالف ضد إيران، يضم باكستان وماليزيا وأندونيسيا ودول آسيا الوسطى».
باسم «أفيون الشعوب» او الدين، جرت استمالة هذه الدول، بهدف حملها على «المساعدة في إخماد ثورة شيعية في البحرين»، كما ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال».
كما استعملت الرياض «الذهب الأسود» سلاحاً. على الملأ، قال الأمير تركي الفيصل في خطاب في قاعدة القوات الجوية الملكية في 8 حزيران الماضي إن «خاصرة إيران الضعيفة هي قطاع النفط. وهنا يمكننا القيام بالكثير، للضغط على الحكومة الإيرانية» للإذعان للمجتمع الدولي.
وقال الباحث الإيراني في معهد «فورين بوليسي إن فوكس» الأميركي جواد حيدريان إنه في محاولتها «لعزل إيران، قدّمت السعودية لأبرز شركاء إيران، وتحديداً الصين، عروضاً سخية مضادة في مجال الطاقة. فخلال زيارات مسؤولين أميركيين إلى دول الخليج، خلال شباط 2010، ناقش الجانبان كيفية تعويض الخسارات التي قد تتكبدها الصين في حال غزو إيران».
من جهتها، روت مجلة «بيزنس ويك» في تقرير نشر في 5 آب، كيف تدخلت السعودية «لسد الفراغ الذي خلفته إيران، بإبرام اتفاق لبيع كميات إضافية من الخام للهند (ثلاثة ملايين برميل) بعدما خفضت طهران إمداداتها لشركات التكرير الهندية، بسبب خلاف على المدفوعات (خمسة مليارات دولار)»، بعدما فشلت نيودلهي في الالتفاف حول العقوبات المفروضة على طهران والتي تجعل تمويل الصفقات المبرمة معها أمراً صعباً.
ومع تجاوز سعر الخام 100 دولار للبرميل تكون السعودية قد ظفرت بحصة قيمتها 300 مليون دولار من نصيب إيران في السوق الهندية.
ليس هذا فحسب، فقد أعلنت المملكة أنها «سترفع إمداداتها» في سوق النفط العالمي، بعدما فشلت الدول الأعضاء في منظمة «أوبك»، في اجتماع عقد في تموز، في التوصل إلى اتفاق لزيادة الإمدادات بشكل جماعي.
زيادة الإمدادات السعوديّة يعني أسعار نفط أدنى، وهنا يكمن «كعب أخيل إيران»، والتعبير للكاتب الإيراني حسين عسكري، الذي عمل مستشاراً لوزارة المالية السعودية، والذي دعا واشنطن، في مقال نشرته دورية «ناشيونال انترست» في 29 تموز إلى «إقناع مصدري النفط، وخاصة السعودية، إلى زيادة صادراتها بغية خفض أسعار النفط» وتوجيه «ضربة موجعة» لإيران.
... والمواجهة في سوريا
أضف إلى هذه الأسلحة، بات لدى المملكة «ساحة معركة» جديدة لتحارب فيها إيران: سوريا. وفي تقرير صدر في 5 آب، رأى معهد «ستارتفور» الاستخباراتي الأميركي، أنه «فيما لم تبحث الرياض على نحو فاعل إسقاط النظام السوري، فإن الأزمة السورية الراهنة تمثل فرصة للسعودية لتقلب الموازين، وخاصة فيما يتعلق بالمكاسب التي حققتها إيران منذ 2003».
وتشكل سوريا المتحالفة مع إيران، برأي «ستراتفور»، موطئ قدم الجمهورية الإسلامية في العالم العربي، وهي «تخدم كقناة تمكنت إيران عبرها من تحويل حزب الله إلى قوة عسكرية أساسية، تمكنت مؤخراً من تقويض نفوذ الرياض هناك (سقوط حكومة سعد الحريري). كما أن العلاقات الوثيقة بين طهران ودمشق سمحت أيضاً للإيرانيين بتقديم أنفسهم على أنهم حماة القضية الفلسطينية.. وجزء كبير من التمويل الإيراني لحماس والجهاد الإسلامي، المتمركزتين في العاصمة السورية، يمر عبر دمشق».
ومع «سقوط العراق في الفلك الإيراني بعد الغزو الأميركي في 2003، شعر السعوديون بكثير من القلق بشأن صعود محور الشيعة الإقليمي الممتد من إيران مروراً بالعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان».
وإلى أن اكتسحت موجة الثورات الشعبية العالم العربي، كان السعوديون يفتقرون الى أي وسيلة فاعلة لتطويق النفوذ الإيراني المتنامي على طول محيطهم الشمالي. والآن مع «الاضطراب في سوريا، بات لدى السعوديين فرصة محتملة لتقويض النفوذ الإيراني»، وفقا لـ«ستراتفور».
ورأي المعهد الأميركي أن «حكومة سورية يقودها السنة، تحل مكان نظام الأقلية العلوية، تقوض بشدة قدرة إيران على التدخل في لبنان عبر قطعها عن حزب الله، ما يسمح للسعودية بأن تعيد إحياء نفوذها هناك. كما سيكون بإمكان السعوديين أيضاً ان يضعفوا قدرة طهران على استغلال النزاع الفلسطيني الاسرائيلي. وأكثر من ذلك، ونظراً الى طول الحدود العراقية السورية، فإن سوريا موالية للسعودية قد تخدم كأداة لتطويق النفوذ الإيراني في العراق» خاصة بعد انسحاب الأميركيين في نهاية 2011.
الضغط بالمال والاقتصاد
قال الباحث في «أوراسيا» أيهم كامل لـ«السفير» إن «الضغط السعودي، ومعه الخليجي، على النظام السوري لن يؤدي إلى سقوطه فوراً، لكن الهدف منه هو الضغط على النخب الاقتصادية والطبقات العاملة في حلب ودمشق، خصوصاً، لكي يعيدوا النظر في مساندتهم للنظام».
وبدوره، قال الباحث في مركز «دوتشي ويلي» الألماني مايكل لاودرز لـ«السفير» إنه «من دون دعم مالي، لن تتمكن سوريا من تلبية احتياجاتها. اقتصاد البلاد على حافة الانهيار. ودمشق تحتاج بشدة إلى دعم السعوديين. وعليه، لدى هؤلاء العديد من الفرص للضغط على سوريا».
وكان وزير المالية السوري السابق محمد الحسين قد وصف السعودية، في تموز 2010، بأنها «أهم شريك اقتصادي لسوريا استثمارياً وتجارياً، وإن حجم التبادل التجاري بين البلدين وصل إلى ملياري دولار، ويتوقع أن يتضاعف في غضون السنوات المقبلة».
لدى «ستراتفور» «نصيحة» للسعودية «التي لا تزال تزن خياراتها، ولكنها تعلم ان فرصة قلب القوة الإيرانية المتنامية في قلب العالم العربي لا يمكن ان تسنح مرة اخرى قريباً، مفادها «اذا ما قرر السعوديون ان يسعوا بشكل فاعل الى سقوط النظام السوري، فإن عليهم أن يضعوا مواردهم الضخمة لتحقيق الهدف».
المملكة تعود إلى الحظيرة الأميركية؟
في عام 1945، التقى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت بالملك سعود في قناة السويس. وعد الأميركيون بتأمين حماية للسعوديين، لقاء النفط و«النفوذ في العالم الإسلامي». (المسؤول السابق في الاستخبارات الأميركية بروس ريدل، آذار 2011).
مذاك كما قبل ذاك، وباستثناء الحظر على النفط الذي فرضه الملك فيصل في 1973 على الولايات المتحدة «والدول الداعمة لإسرائيل» رداً على الحرب الإسرائيلية آنذاك، والعلاقات بين البلدين تسير كما خطط لها الأميركيون. حتى هجمات 11 أيلول، التي قيل إن 15 من منفذيها الـ19 كانوا سعوديين، لم تحل دون تواصل العلاقات بين الدولتين.
وعندما تخلى الأميركيون عن مبارك في مطلع العام، تحدثت «نيويورك تايمز»، عن اتصال هاتفي انتهى «بخلاف حاد» بين الملك والرئيس باراك أوباما، حيث شعر الأول أن الأميركيين «عاجزون عن حماية حلفائهم» (بروس ريدل)، فيما ذهب مدير السياسة الخارجية في مؤسسة «بروكينغز» البحثية الأميركية مارتن انديك، الذي عمل مرتين سفيراً للولايات المتحدة لدى إسرائيل إلى حد القول إن الملك «يرى في أوباما، في الأزمة الحالية، تهديداً لأمن المملكة الداخلي».
ثم كانت الأزمة السورية. «هادن» السعوديون الأميركيين، قال الكاتب في «الغارديان» إيان بلاك، لـ«السفير»، موضحاً أن خطاب الملك جاء «تملقاً للأميركيين، ولجعل حياة نظام الأسد أصعب».
عندما سأل الباحث في «معهد واشنطن» جون هانا، المسؤول السعودي الرفيع عن سبب عدم تحريك المملكة ساكناً حيال دمشق قبل أسابيع، رغم قناعة الملك حينها بأن تغييراً للنظام سيكون مفيداً للمصالح السعودية، ألقى المسؤول باللوم على «الغموض الذي يكتنف السياسة الأميركية»، ملمحاًَ بذلك إلى الشرخ الذي أحدثه سقوط مبارك في العلاقة بين الرياض وواشنطن.
وأضاف المسؤول أن السعوديين «أحجموا عن الإجهاز على المحور الإيراني السوري من دون ضمانات من الأميركيين بأنهم يصممون على رؤية الأسد خارج» الحكم. فحتى بدايات تموز الماضي، لم يكن لدى السعوديين «أي فكرة عن النتيجة التي يريدها أوباما في سوريا، وما هي استراتيجيته لبلوغ هذه النتيجة»... فهل باتوا يعلمون؟
ثورة مصر التي اندلعت في 25 كانون الثاني استدعت باكرا بيانا ملكيا. في 29 من الشهر ذاته، أدان الملك عبد الله محاولات «المندسين باسم حرية التعبير زعزعة أمن مصر واستقرارها».
كان لثورتي البحرين واليمن حسابات أخرى. فالأولى «مملكة» و«خليجية» وتركيبتها الديموغرافية «تنطوي على كثير من الألغام»... الإيرانية، في حين أن الثانية لطالما شكلت «جيبا» تخشى المملكة اشتعاله، لحسابات عشائرية مذهبية، ناهيك عن تنامي قوة القاعدة هناك. موقف الرياض من الأولى تُرجم دعما عسكرياً لإخماد الثورة، فيما اتخذ في الثانية شكل «تمترس» وراء مجلس التعاون الخليجي في مبادراته المتكررة لإنهاء الأزمة اليمنية، قبل استضافة علي عبد الله صالح جريحاً.
ثم اندلعت الثورة في سوريا. انتظرت الرياض ما يزيد على خمسة أشهر لتصدر بياناً رسمياً، وصفه الكاتب في صحيفة «الغارديان» البريطانية ايان بلاك، في حديث لـ«السفير» بأنه «انتقادي نادر»، نظراً إلى ان «السياسة الخارجية السعودية لطالما كانت عبارة عن سياسة إدارة الأعمال، أي تنطوي على حوافز مالية ومبادرات غير علنية».
في بيانه، أعرب الملك عبد الله عن «عدم قبوله بما يحدث في سوريا»، مطالباً «بإيقاف آلة القتل، وإراقة الدماء وتحكيم العقل قبل فوات الأوان». وأرفق التصريح بتحرك وصف بـ«الجريء» تمثل في سحب السفير السعودي من دمشق.
فما الأسباب الكامنة وراء إصدار المملكة بياناً كهذا، وهي المعروفة بـ«تحفظها التقليدي» عن التدخل في شؤون الدول الأخرى؟
مجلة «جويش ويك» الإسرائيلية عزت صدور البيان إلى سعي سعودي «لتحويل الأنظار عن تقارير حديثة تتحدث عن الدور الناشط الذي لعبته المملكة في دعم هجمات 11 أيلول»، مشيرة إلى كتاب جديد بعنوان «اليوم الحادي عشر» قال فيه انطوني سامرز وروبن سوان ان «مسؤولين سعوديين كباراً علموا بالمؤامرة. وأن الرئيس (السابق جورج) بوش استخدم نفوذه لحماية أفراد الأسرة المالكة».
محللون آخرون ردوا السبب فعلا إلى «حجم إراقة الدماء في سوريا»، فيما قال آخرون إن «زعامة» العالم العربي هي ما تطمح إليه الرياض. غالبيتهم قالوا «فتش عن إيران».
موقع الزعامة شاغر.. أو يكاد؟
لطالما بحثت السعودية عن دور قومي قيادي في المنطقة، لكن دوراً كهذا كانت قد استحوذت عليه مصر بزعامة جمال عبد الناصر في الستينيات، وحاول العراق لعبه في عهد صدام حسين في الثمانينيات وبداية التسعينيات، ومن ثم مصر خلال حكم حسني مبارك بعد وقوع العراق تحت الاحتلال الأميركي. لكن السعودية استطاعت، ومنذ منتصف السبعينيات، أن تصبح لاعباً في المنطقة.. إلى جانب سوريا، ثم ايران ومؤخرا أنقرة.
مع سقوط مبارك، باتت السعودية «العملاق السني» الوحيد في المنطقة، فهل تلوح في أفقها فرصة زعامة تكتمل مع سوريا أضعف؟
يؤثر الباحثان في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» اندرو تابلر، الذي تحدث لـ«السفير»، وسايمون هندرسون التوضيح أن «الرياض ربما غير راغبة في الذهاب أبعد من إصدار بيان»، لكن كلمات الملك «القوية تعزز ادّعاء المملكة زعامة العالمين العربي والإسلامي، وخاصة خلال شهر رمضان».
وكان الباحث في مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية نواف عبيد، الذي عمل مستشاراً سابقاً للسفير السعودي السابق لدى واشنطن الأمير تركي الفيصل، قال في مقال نشره موقع «سي ان ان» في 8 حزيران: «كونها مهد الإسلام وهي من يقود العالمين العربي والإسلامي، امام السعودية مسؤولية فريدة لمساعدة الدول في المنطقة، ومساندتها في تطورها التدريجي نحو أنظمة سياسية أكثر استدامة وتجنيبها الانهيار والفوضى».
«ادّعاء الزعامة» هذا (والتعبير لتابلر وأندرسون) هو السبب وراء «رغبة السعودية في توسيع دائرة مجلس التعاون الخليجي، لتشمل المغرب والأردن، كخطوة تهدف إلى تفعيل دورها القيادي الجديد الذي تسعى لاكتسابه في مواجهة الدور التركي المتنامي»، على حد قول الكاتب لدى مؤسسة «ميديا بريما» البريطانية فرج الكعلوك.
المحلل في «مجموعة أوراسيا» ومقرها واشنطن ايهم كامل لا يوافق على هذا الطرح. ويقول لـ«السفير» إن «السعوديين باتوا أكثر حزماً إقليمياً، فقط لا غير، وهم سيواصلون على هذا النحو خصوصا بعد سقوط حسني مبارك»، لكنهم «كانوا حذرين في رسم سياستهم حيال سوريا خشية أن تؤدي مواجهة أكبر مع دمشق إلى اضطراب أكبر في المنطقة».
ويوضح أنه «خلال الأشهر القليلة الماضية كان من الصعب التوصل إلى توافق بين فروع آل سعود المختلفة حول كيفية التعامل مع الأزمة السورية». ذلك لا يعني أن «هناك توافقاً تاماً حالياً، أقله الآن. لكن الأكيد، هناك تحول واضح في الوجهة».
كل الأسباب تشير إلى..إيران!
في المختصر، «للأمر علاقة باحتواء النفوذ الإيراني أكثر منه بسط زعامة سعودية»، يقول ايهم كامل، مستدركاً «لا أعتقد أن آل سعود تخلوا كلياً عن الأسد أو اتخذوا قراراً نهائياً بمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا.. لكننا ننحو في هذا الاتجاه».
من جهته، قال بلاك لـ«السفير» إن «النظامين السعودي والسوري لطالما كانا على طرفي نقيض، بسبب النفور المتبادل بين المملكة المحافظة والجمهورية العلمانية، وكذلك بسبب العلاقة الاستراتيجية بين سوريا وإيران».
وطهران بالنسبة للملك هي «رأس الثعبان»، الذي طلب من الأميركيين «قطعه»، وفق وثيقة تعود للـ2008، سربها «ويكيليكس».
وروى الباحث في «معهد واشنطن» جون هانا، في تقرير نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية في 9 آب، أن «مسؤولاً سعودياً رفيعاً قال له «قبل أسابيع» إنه منذ بداية الثورة السورية، اعتبر الملك أن تغييراً للنظام سيكون مفيدا للمصالح السعودية، وخصوصاً في ما يتعلق بالتهديد الإيراني، باعتبار أن «الملك يعرف أنه، عدا عن انهيار الجمهورية الإسلامية نفسها، لا شيء يمكنه أن يضعف إيران أكثر من خسارتها لسوريا».
أما الكاتب في «الغارديان» براين ويتاكر فرأى أنه «ليس للرياض مصلحة في تسويق الديموقراطية وحقوق الانسان في سوريا، بل مصلحتها في تسويق نفوذها السني ومحاربة النفوذ الشيعي الإيراني».
المواجهة.. بالأفيون والذهب!
بعد سقوط مبارك الحليف العتيد في العداء لإيران، وفق معادلة «عدو عدوي صديقي»، ومع اندلاع الثورة في البحرين والموقف الإيراني منها، ووسط خشيتها من أن تسد طهران الفراغ الذي سيحدثه انسحاب الأميركيين من العراق في نهاية 2011، غيرت المملكة استراتيجيتها، وما كانت تفعله همساً بات جهراً. في أيار الماضي، سعت إلى «حشد دول في الشرق الأوسط وآسيا للانضمام إلى تحالف ضد إيران، يضم باكستان وماليزيا وأندونيسيا ودول آسيا الوسطى».
باسم «أفيون الشعوب» او الدين، جرت استمالة هذه الدول، بهدف حملها على «المساعدة في إخماد ثورة شيعية في البحرين»، كما ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال».
كما استعملت الرياض «الذهب الأسود» سلاحاً. على الملأ، قال الأمير تركي الفيصل في خطاب في قاعدة القوات الجوية الملكية في 8 حزيران الماضي إن «خاصرة إيران الضعيفة هي قطاع النفط. وهنا يمكننا القيام بالكثير، للضغط على الحكومة الإيرانية» للإذعان للمجتمع الدولي.
وقال الباحث الإيراني في معهد «فورين بوليسي إن فوكس» الأميركي جواد حيدريان إنه في محاولتها «لعزل إيران، قدّمت السعودية لأبرز شركاء إيران، وتحديداً الصين، عروضاً سخية مضادة في مجال الطاقة. فخلال زيارات مسؤولين أميركيين إلى دول الخليج، خلال شباط 2010، ناقش الجانبان كيفية تعويض الخسارات التي قد تتكبدها الصين في حال غزو إيران».
من جهتها، روت مجلة «بيزنس ويك» في تقرير نشر في 5 آب، كيف تدخلت السعودية «لسد الفراغ الذي خلفته إيران، بإبرام اتفاق لبيع كميات إضافية من الخام للهند (ثلاثة ملايين برميل) بعدما خفضت طهران إمداداتها لشركات التكرير الهندية، بسبب خلاف على المدفوعات (خمسة مليارات دولار)»، بعدما فشلت نيودلهي في الالتفاف حول العقوبات المفروضة على طهران والتي تجعل تمويل الصفقات المبرمة معها أمراً صعباً.
ومع تجاوز سعر الخام 100 دولار للبرميل تكون السعودية قد ظفرت بحصة قيمتها 300 مليون دولار من نصيب إيران في السوق الهندية.
ليس هذا فحسب، فقد أعلنت المملكة أنها «سترفع إمداداتها» في سوق النفط العالمي، بعدما فشلت الدول الأعضاء في منظمة «أوبك»، في اجتماع عقد في تموز، في التوصل إلى اتفاق لزيادة الإمدادات بشكل جماعي.
زيادة الإمدادات السعوديّة يعني أسعار نفط أدنى، وهنا يكمن «كعب أخيل إيران»، والتعبير للكاتب الإيراني حسين عسكري، الذي عمل مستشاراً لوزارة المالية السعودية، والذي دعا واشنطن، في مقال نشرته دورية «ناشيونال انترست» في 29 تموز إلى «إقناع مصدري النفط، وخاصة السعودية، إلى زيادة صادراتها بغية خفض أسعار النفط» وتوجيه «ضربة موجعة» لإيران.
... والمواجهة في سوريا
أضف إلى هذه الأسلحة، بات لدى المملكة «ساحة معركة» جديدة لتحارب فيها إيران: سوريا. وفي تقرير صدر في 5 آب، رأى معهد «ستارتفور» الاستخباراتي الأميركي، أنه «فيما لم تبحث الرياض على نحو فاعل إسقاط النظام السوري، فإن الأزمة السورية الراهنة تمثل فرصة للسعودية لتقلب الموازين، وخاصة فيما يتعلق بالمكاسب التي حققتها إيران منذ 2003».
وتشكل سوريا المتحالفة مع إيران، برأي «ستراتفور»، موطئ قدم الجمهورية الإسلامية في العالم العربي، وهي «تخدم كقناة تمكنت إيران عبرها من تحويل حزب الله إلى قوة عسكرية أساسية، تمكنت مؤخراً من تقويض نفوذ الرياض هناك (سقوط حكومة سعد الحريري). كما أن العلاقات الوثيقة بين طهران ودمشق سمحت أيضاً للإيرانيين بتقديم أنفسهم على أنهم حماة القضية الفلسطينية.. وجزء كبير من التمويل الإيراني لحماس والجهاد الإسلامي، المتمركزتين في العاصمة السورية، يمر عبر دمشق».
ومع «سقوط العراق في الفلك الإيراني بعد الغزو الأميركي في 2003، شعر السعوديون بكثير من القلق بشأن صعود محور الشيعة الإقليمي الممتد من إيران مروراً بالعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان».
وإلى أن اكتسحت موجة الثورات الشعبية العالم العربي، كان السعوديون يفتقرون الى أي وسيلة فاعلة لتطويق النفوذ الإيراني المتنامي على طول محيطهم الشمالي. والآن مع «الاضطراب في سوريا، بات لدى السعوديين فرصة محتملة لتقويض النفوذ الإيراني»، وفقا لـ«ستراتفور».
ورأي المعهد الأميركي أن «حكومة سورية يقودها السنة، تحل مكان نظام الأقلية العلوية، تقوض بشدة قدرة إيران على التدخل في لبنان عبر قطعها عن حزب الله، ما يسمح للسعودية بأن تعيد إحياء نفوذها هناك. كما سيكون بإمكان السعوديين أيضاً ان يضعفوا قدرة طهران على استغلال النزاع الفلسطيني الاسرائيلي. وأكثر من ذلك، ونظراً الى طول الحدود العراقية السورية، فإن سوريا موالية للسعودية قد تخدم كأداة لتطويق النفوذ الإيراني في العراق» خاصة بعد انسحاب الأميركيين في نهاية 2011.
الضغط بالمال والاقتصاد
قال الباحث في «أوراسيا» أيهم كامل لـ«السفير» إن «الضغط السعودي، ومعه الخليجي، على النظام السوري لن يؤدي إلى سقوطه فوراً، لكن الهدف منه هو الضغط على النخب الاقتصادية والطبقات العاملة في حلب ودمشق، خصوصاً، لكي يعيدوا النظر في مساندتهم للنظام».
وبدوره، قال الباحث في مركز «دوتشي ويلي» الألماني مايكل لاودرز لـ«السفير» إنه «من دون دعم مالي، لن تتمكن سوريا من تلبية احتياجاتها. اقتصاد البلاد على حافة الانهيار. ودمشق تحتاج بشدة إلى دعم السعوديين. وعليه، لدى هؤلاء العديد من الفرص للضغط على سوريا».
وكان وزير المالية السوري السابق محمد الحسين قد وصف السعودية، في تموز 2010، بأنها «أهم شريك اقتصادي لسوريا استثمارياً وتجارياً، وإن حجم التبادل التجاري بين البلدين وصل إلى ملياري دولار، ويتوقع أن يتضاعف في غضون السنوات المقبلة».
لدى «ستراتفور» «نصيحة» للسعودية «التي لا تزال تزن خياراتها، ولكنها تعلم ان فرصة قلب القوة الإيرانية المتنامية في قلب العالم العربي لا يمكن ان تسنح مرة اخرى قريباً، مفادها «اذا ما قرر السعوديون ان يسعوا بشكل فاعل الى سقوط النظام السوري، فإن عليهم أن يضعوا مواردهم الضخمة لتحقيق الهدف».
المملكة تعود إلى الحظيرة الأميركية؟
في عام 1945، التقى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت بالملك سعود في قناة السويس. وعد الأميركيون بتأمين حماية للسعوديين، لقاء النفط و«النفوذ في العالم الإسلامي». (المسؤول السابق في الاستخبارات الأميركية بروس ريدل، آذار 2011).
مذاك كما قبل ذاك، وباستثناء الحظر على النفط الذي فرضه الملك فيصل في 1973 على الولايات المتحدة «والدول الداعمة لإسرائيل» رداً على الحرب الإسرائيلية آنذاك، والعلاقات بين البلدين تسير كما خطط لها الأميركيون. حتى هجمات 11 أيلول، التي قيل إن 15 من منفذيها الـ19 كانوا سعوديين، لم تحل دون تواصل العلاقات بين الدولتين.
وعندما تخلى الأميركيون عن مبارك في مطلع العام، تحدثت «نيويورك تايمز»، عن اتصال هاتفي انتهى «بخلاف حاد» بين الملك والرئيس باراك أوباما، حيث شعر الأول أن الأميركيين «عاجزون عن حماية حلفائهم» (بروس ريدل)، فيما ذهب مدير السياسة الخارجية في مؤسسة «بروكينغز» البحثية الأميركية مارتن انديك، الذي عمل مرتين سفيراً للولايات المتحدة لدى إسرائيل إلى حد القول إن الملك «يرى في أوباما، في الأزمة الحالية، تهديداً لأمن المملكة الداخلي».
ثم كانت الأزمة السورية. «هادن» السعوديون الأميركيين، قال الكاتب في «الغارديان» إيان بلاك، لـ«السفير»، موضحاً أن خطاب الملك جاء «تملقاً للأميركيين، ولجعل حياة نظام الأسد أصعب».
عندما سأل الباحث في «معهد واشنطن» جون هانا، المسؤول السعودي الرفيع عن سبب عدم تحريك المملكة ساكناً حيال دمشق قبل أسابيع، رغم قناعة الملك حينها بأن تغييراً للنظام سيكون مفيداً للمصالح السعودية، ألقى المسؤول باللوم على «الغموض الذي يكتنف السياسة الأميركية»، ملمحاًَ بذلك إلى الشرخ الذي أحدثه سقوط مبارك في العلاقة بين الرياض وواشنطن.
وأضاف المسؤول أن السعوديين «أحجموا عن الإجهاز على المحور الإيراني السوري من دون ضمانات من الأميركيين بأنهم يصممون على رؤية الأسد خارج» الحكم. فحتى بدايات تموز الماضي، لم يكن لدى السعوديين «أي فكرة عن النتيجة التي يريدها أوباما في سوريا، وما هي استراتيجيته لبلوغ هذه النتيجة»... فهل باتوا يعلمون؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق